اللواء محمد البدارين
كما هو معتاد ، فكلما تفاقمت مشاكل المرور، تذهب الحكومة الى الحل السهل ، وهو اصدار قانون جديد للسير او تعديله وتوسيعه، فكان أن تعرض قانون السير الاردني للعديد من التغييرات والتعديلات المستمرة حتى الآن، كما شكلّت العديد من اللجان للنظر في احتواء ازمة السير ، لكن كل تلك الجهود لم تنجح في حل الأزمة ولا في التخفيف من أعراضها ، حتى انتهى الحال مؤخرا الى توزيع رجال السير عند الكثير من نقاط الاختناق المروري ، لمحاولة تسليك الحركة ما أمكن ، مع أن الشرطي الذي يقف مباشرة في مواجهة الأزمة ، لا علاقة له بأسبابها ، وهذه معضلة الحلول الامنية ، عندما تستدعى لمواجهة أعراض أزمات أسبابها ليست أمنية ، فيما كل الجهات الشريكة في خلق الازمات ، تبقى بعيدة عن الخط الأمامي ، فلا هي تتعب ، ولا هي تتعرض للمساءلة.
ويبدو ، أن حقيقة معاناة الناس المريرة في ازمات السير ، ومعهم معاناة رجال السير ، لا تصل الى مستويات القرار المركزي ، وربما حتى لو وصلت فان هناك من يستطيعون تحميل المسؤولية للمواطنين والشرطة ، دون أي بحث جاد في أسباب الأزمة أو في الحلول النهائية ، وتبقى الازمة المتعددة الاسباب والابعاد تدور في وجه السائق والشرطي ، مع أن كليهما لا علاقة له بالأسباب الحقيقية ولا بالحلول الجادة ، التي يرتبط معظمها بجهات متعددة ، ربما لا تهتم بالموضوع فعليا ، او هي لا ترغب باتخاذ قرارات حاسمة لأسباب مختلفة.
ومن حسن حظ كل الجهات المتداخلة في هذه القضية ، انها كثيرة ، حتى أنها توصف أحيانا بالجميع ، وهذا وضع مثالي لتضييع المسؤوليات وتعقيد الحلول ، وتشويش عقل الحكومة المركزية التي سيكون عليها الاستماع للعديد من الأطراف المتداخلة والمتشاركة ، والمتنازعة أحيانا ، وعلى هذا النحو تتزايد الاجتماعات واللجان والمشاركون ، وينفتح الباب واسعا للمماطلات والتلاومات ، وتصدر النتائج على شكل اعادة توصيف للمشاكل ، او توصيات تشبه المواعظ ، ويظل الحل الأمني هو المتاح في النهاية ، وبموجبه يتم تحميل السائق والشرطي كامل المسوؤلية.
أن أزمة السيّر في عمان والاردن عموما هي ازمة حقيقية وضاغطة ومزمنة ومتفاقمة ، والفشل في حلها ينعكس على قطاعات كثيرة : النقل ، السياحة ، التجارة ، الاستثمار ، وحركة كل الناس والبضائع من أي مكان إلى أي مكان ، إضافة لكل ما يشهده الشارع من توترات ، بما يسيء للمظهر العمومي كله.
ولو كان هناك بحث جاد وشامل في الأزمة ، لكان يجب الاعتراف بأن أغلب الطرق الخارجية في المملكة الرابطة بين عمان والمدن الأخرى أو بين مدينة ومدينة ، هي في حالة غير مقبولة ، فهي غير معبدة بشكل جيد ، وبلا مسارب واضحة الخطوط ، وبلا عاكسات وبلا انارة ، وبلا حرم للطريق يحميه من باعة الطرق ، وتحتاج للشواخص الكافية المعّدة وفق المعايير العالمية ، بحيث يراها ويفهمها الزائر والسائح والمواطن ، كما تحتاج للموانع على الجزر وعلى الحواف ، ولا نريد أن نقول تحتاج للتشجير والأعمال التجميلية ، ودورات المياه العمومية ، رغم أن كل هذا بات متاحا في دول ليست متقدمة كثيرا عن الأردن ، الأردن الذي كان قد باشر مشروع تشجير جوانب الطرق قبل أكثر من نصف قرن ، لكن المشروع اغتيل مع صاحبه.
ويرتبط بالطرق الخارجية ، امتداداتها النافذة في داخل حدود أمانة عمّان والبلديات ، كشارع صويلح دوار الداخلية الذي هو جزء من طريق خارجي عابر يربط عمان بجرش واربد وعجلون والسلط والاغوار ، لكنه بات شارعا تجاريا داخليا ، وكذلك شارع طبربور من دوار المدينة الرياضية وحتى ماركا ، فهو جزء نافذ من طريق عمان الزرقاء ، لكنه بات من أكبر الشوارع التجارية وتتكدس على جانبيه كل انواع المحلات بما فيها صالات الافراح ومعارض السيارات ، والمدارس والدوائر الحكومية ، ولا نظن أن أي شخص ما عدا من قرر ، يستطيع أن يفهم لماذا وضع مبنى دائرة الأحوال المدنية في هذا المكان الحرج على طريق مزدحم ، ونتذكر أن مبنى وزارة الزراعة بقي مستأجرا سنوات طويلة على طريق مزدحم ايضا.
أما الشوارع الداخلية في عمّان وداخل حدود البلديات فهي ليست أحسن حالا من حيث التعبيد والصيانة والنظافة والأعمال الهندسية و الأرصفة والجزر ، فالأرصفة على ضيقها إما أن تتم زراعتها بالأشجار أو تتحول إلى بسطات ، وحين انقطعت الكهرباء في إحدى الثلجات تبين أن أشجار الأرصفة تسببت بقطعها ، الأشجار التي تكسرت وأغلقت الشوارع أيضا ، وقيل في حينه إن تنازعا حول الاختصاص نشب بين عدة جهات ، القى كل منها باللوم على الآخر.
ويرتبط بالأزمة ايضا ، اسئلة حول ترخيص السيارات المتهالكة ، وكذلك حركة الشاحنات والآليات الثقيلة ، وعدم الاهتمام بأولويات السير على المسارب ، فكل السيارات يفضل سائقوها المسرب الأيسر لأنه أقل تحفيرا ، فيغلقون الطريق امام السيارات الأسرع ، ولا أحد معني بقاعدة السير البطيء يلتزم اليمين ، مع ان السير المتباطىء ضار كالسير المتسرع ، وكثيرا ما يضطر الشرطي لحث السائقين على تسريع الحركة ، ويمكن التوسع في الأمثلة والتفاصيل الى ما لا يمكن الإحاطة به ، فالطرق والشوارع مرافق عامة ، حين تضطرب أحوالها ، يجب ان نتوقع كل ما يقع من حوادث واختناقات وسلوكيات متوترة ، والحل الحقيقي يجب أن يعالج المشكلة من جميع جوانبها ، ويصل الى أسبابها غير المباشرة قبل اسبابها المباشرة.
وبطبيعة الحال ، فان اي شخص لا ينتقل عبر أنحاء البلاد بشكل مستمر ، لن يكون بوسعه ان يبدي اي اهتمام بواقع هذه الازمة وتبعاتها ، وسيظل يعتقد أن تغليظ العقوبات يحل المشكلة ، ولذلك ستستمر عملية التجريب وإعادة التجريب وتبديل القوانين وتعديلها ، دون اتخاذ قرارات حاسمة ، لكن الأردن يستحق طرقا وشوارع وارصفة وفق معايير جيدة ، تتيح حركة مرورية مريحة وامنة.