علاء الدين أبو زينة
من المؤكد أن مصير العالم لا تحدده قيادات ذات رؤية أخلاقية أو على أساس القواعد الدولية "المشتركة” التي لا تطبق على الأقوياء. لقد أصبحت إرادة مئات الملايين من الناس مرهونة، حرفيًا، بنزوات رجلين: دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو. وكل منهما يرى نفسه فريدًا في عظمته وصوابيته، مع أنهما لا يتصرفان كرجلي دولة، بل كزعيمي عصابتين عقائديتين، يعوزهما الضمير وتزدهران على أنقاض القانون والأعراف الدولية. ويقود كلٌّ منهما نظامًا يزدري القيم، ويتخطى الحدود الأخلاقية، ويُوظِّف أدوات الابتزاز والعنف -وصولًا إلى الإبادة الجماعية نفسها- كما لو أن العالم ومن فيه ملك آبائهما وورثاه ليفعلا فيه ما يشاءان بلا رقيب ولا حسيب.
عاد دونالد ترامب إلى المسرح الدولي بأجندة أكثر عدوانية وتخويفًا وإثارة للفوضى من التي قادها في فترته الأولى. وهو يترجم مبدأ "أميركا أولًا” عمليًا إلى واقع "أميركا فقط”. وقد سحب بلده من الالتزامات الدولية، وهدّد الحلفاء، واستخدم العقوبات الاقتصادية والسياسية كأدوات قسرية تُشبه البلطجة السياسية. والتعريف الجديد للقيادة لديه هو شراء الولاءات، ومعاقبة المعارضين، وتحويل الدولار إلى سلاح يسلطه على رقاب المنافسين. ويعكس انسحابه من اتفاقيات المناخ، وهجماته على مؤسسات الأمم المتحدة استخفافًا بالغًا بالمسؤوليات الإنسانية المشتركة. وهو يتصرف كما لو كان العالم "برج ترامب”، يقرر من يَسكنه ومن يُطرَد منه.
وفي القاعدة
المتقدمة في الشرق الأوسط، يجسِّد صديقه، بنيامين نتنياهو، نموذجًا متكاملًا للحكم
الاستعماري الوحشي القائم على التوسّع الاستيطاني والقومية الإثنية تحت ستار
"الشرعية الديمقراطية”. وهو يقود ائتلافًا يمينيًا متطرفًا يدمج بين الصهيونية
الدينية والعنصرية العرقية لتبرير مشروع الاستعمار الإحلالي الإبادي في فلسطين.
تحت قيادته المطوَّلة، تحوّلت غزة إلى ما وصفه كثيرون بـ”أكبر سجن مفتوح في
العالم”، واستمر ابتلاع الأراضي الفلسطينية بـ”الضم الزاحف” على مرأى ومسمع من
العالم، في تحدٍّ سافرٍ للقانون الدولي. وعلى طريقة "من أمِن العقاب أساء الأدب”
تحولت حكومته على رؤوس الأشهاد إلى تكتيكات استهداف المدنيين، والتجويع الممنهج،
والحصار شامل، في ممارسات تُصنّفها المنظمات الحقوقية والدولية كجرائم ضد
الإنسانية، تُمارس بتأييد أميريكي دائم يجعل المحاسبة ضربًا من المعجزات، والداعي
إليها مستهدفًا بالعزل والإقصاء
يتشارك ترامب
ونتنياهو في أكثر من مجرد تحالف أيديولوجي. كلاهما يتزعّم حركة داخلية تعتنق
التطرف وتزدري العقلانية. في أميركا، امتدح ترامب علنًا العنصريين البيض، وحرض على
التمرد، واحتضن خطابًا دينيًا قوميًا يُكرِّس صورة أميركا كإمبراطورية إنجيلية
متطرفة. وفي فلسطين المحتلة، يُحيط نتنياهو نفسه بوزراء وحشيين لا يُخفون رغبتهم
في محو الفلسطينيين من الوجود، ويهلّلون لقتل الأطفال. وكلاهما يوظف الخوف
والانقسام ونظريات المؤامرة لترسيخ سلطته، ويثابر حتى تصبح ممارساته مُكررة،
مألوفة، ومؤسساتية.
بطريقة غير
مسبوقة، أُفرغ هذان الرجلان القانون الدولي من مضمونه. كان اعتراف ترامب بالقدس
عاصمة للكيان الاستعماري وبالسيادة على الجولان شكّل خرقًا فاضحًا للإجماع الدولي.
ولا يخفي نتنياهو نيّته ضمّ كامل أرض الفلسطينيين الممتدة من النهر إلى البحر،
منكرًا الوجود الفلسطيني جملة وتفصيلًا. وحيث يرتفع صوت شعبي لنصرة العدالة
والإنسانية للفلسطينيين، أو للاعتراض على الهيمنة الأميركية تنقض الحكومات التابعة
والخائفة على المعترضين وتُسكت أصواتهم بلا رحمة.
يقول الأستاذ
والمفكر اليهودي-الأميركي، ريتشارد فولك أن "القانون الذي لا يحمي الضعفاء، ويعزّز
هيمنة الأقوياء، لا يعُود قانونًا”. وفي رعاية ترامب ونتنياهو، لم يفقد القانون
الدولي دوره فحسب، بل أصبح أداة انتقائية تُستخدم لترهيب الخصوم وضمان الحصانة
للحلفاء. ولا تختلف أحكام القضاء في عهد ترامب، وهجماته على "المحكمة الجنائية
الدولية”، عن مساعي نتنياهو لتدجين القضاء المحلي في الكيان وتكميم أصوات
المعارضين، وهجومه على المؤسسات القانونية الدولية.
في عهد هذين
الرجلين، أعيد تعريف "القيادة القوية” لتصبح مرادفًا للقسوة، والتمييز، والإفلات
من العقاب. وهما يؤكدان، من موقع القوة الغاشمة، اتجاه صعود اليمين المتطرف
عالميًا، وتآكل الثقة في المؤسسات، واحتضار ما تبقى من "النظام الدولي” أو أي
احترام متبق له. في مواجهة معظم دول العالم وأربعة عشر من أعضاء مجلس الأمن الخمسة
عشر، تنقض الولايات المتحدة قرارًا ربما ينقذ الفلسطينيين من الإبادة الجماعية.
وأمام كل دول العالم، يمزق ممثل الكيان "ميثاق الأمم المتحدة” ويسفه المؤسسة ومَن
فيها، ويفلت بذلك بلا أدنى خدش. وفي الخطابات العلنية والمضمرة، يتحدث ترامب
ونتنياهو عن العالم –وإقليمنا بشكل خاص- بثقة إلهية وهما يثقان بأن أحدًا لن يرفع
صوتًا.
ربما يكون ما يُعزي هو أن مفكرين وازنين يرون أن العالم الآن في مرحلة انتقالية، نحو مستقبل متعدد الأقطاب، يتكاتف فيه الجنوب العالمي وآسيا وأميركا اللاتينية لتقويض أحادية القطبية –بل استبداد أفراد بالسلطة على العالم. والأمل أن يكون هذا الفصل المظلم من تاريخ الإنسانية محطة عابرة لا تطول فيها الإقامة، لفرطِ سقوطه. لا يمكن أن تستقر الإنسانية على عالم يحكمه منطق العصابات. العالم يقف اليوم عند مفترقٍ حاسم لتقرير المصير، ولنا جميعًا الاختيار.
الغد