شريط الأخبار

الأسئلة المحظورة في زمن الحرب

الأسئلة المحظورة في زمن الحرب
كرمالكم :  

د. عامر بني عامر

في زمن الحروب، لا تُقصف المدن وحدها، بل تُقصف الأسئلة أيضًا. يُغلق باب النقاش، وتُرفع لافتة "ليس الوقت مناسبًا". لكن متى كان الوقت مناسبًا أصلًا لطرح الأسئلة الصعبة؟ وهل الصمت يُحصّن الدولة، أم يُضعف مناعتها الوطنية؟

الحرب الجارية بين إيران وإسرائيل أعادت إلى الأردنيين مشاعر القلق القديمة، لكنها في الوقت ذاته، فرضت حالة من الانضباط الصارم في الخطاب العام، ليس من الدولة فحسب، بل من المجتمع ذاته، هناك أسئلة يخجل الناس من طرحها، أو يخشون أن يُساء فهمهم إن فعلوا، أسئلة لا تُمنع بنصوص قانونية، بل تُقمع بقوة "التحسس الجمعي".

لكننا بحاجة، أكثر من أي وقت مضى، إلى تلك الأسئلة المؤجلة، لأن ما لا يُسأل عنه اليوم، قد يتحول إلى فجوة غدًا، والأردن، الذي حافظ على استقراره وسط العواصف، يحتاج إلى مراجعة هادئة وصريحة حول موقعه، وتحالفاته، واستعداداته لما هو قادم.

هل نملك مشروعًا وطنيًا في الإقليم؟ أم أننا ما زلنا نكتفي بردود الأفعال وسط خريطة تتغير كل ساعة؟ رغم أن لدينا سياسة خارجية واضحة توازن بين مصالحنا وتحالفاتنا، ولكن اليوم يطرح تساؤل هل هامش الحركة يضيق تحت ضغط المحاور والاستقطابات المتصاعدة؟

في الداخل، هل نملك الجهوزية الكاملة لمواجهة تصعيد طويل؟ هل أجرت مؤسساتنا مراجعات حقيقية بعد أزمة كورونا، وأزمات الغذاء والطاقة، والحروب الدائرة في مختلف بلدان العالم، وانكشافنا أمام سلاسل التوريد؟ وهل نحن جاهزون إذا امتدت النار إلى اقتصادات المنطقة وأمنها الاجتماعي؟

أين تتجه تحالفاتنا؟ هل نُعيد التموضع بهدوء وفق مصالحنا الاستراتيجية؟ أم أننا ما زلنا نراوح مكاننا في هامش ضيّق بين التردد والضغوط؟ وهل خطابنا العام يُقنع الداخل قبل الخارج، أم ما زال يدار بأسلوب التطمينات السريعة لا بناء الثقة طويلة الأمد؟

الأهم من كل ذلك: هل جبهتنا الداخلية محصّنة فعلًا؟ ليس أمنيًا فقط، بل وجدانيًا؟ هل نؤمن جميعًا بالدولة الوطنية كخيار نهائي غير قابل للمساومة؟ أم ما زالت هناك ولاءات تتنفس عبر مرجعيات دينية، أو أيديولوجية، أو عصبيات فرعية؟ في الإقليم، لم يكن من الصعب اختراق الدول التي بنت هويتها على روايات مغلقة، فالهويات الهشة لا تصمد حين تحتدم المعارك، بل تنقسم على ذاتها.

من الطبيعي أن ينقسم الرأي العام الأردني بين من يرى أن محور "المقاومة" هو الخيار الصحيح، ومن يرى أن مصلحة الاردن تتحقق عبر علاقاتنا الغربية والعربية، ولكن هل يكون الحل في قمع هذا التعدد أم في إدارته بالحوار؟ أليس كتم التباين يهدد النقاش بدلاً من أن يصنع وحدة؟

سؤال العلاقة مع إيران لا يُطرح علنًا، وكأنه محظور. لكن الواقع يفرض نفسه. الجميع ينفتح على الجميع، فما الذي يمنعنا من مراجعة موقعنا ضمن هذا المشهد؟ وهل غياب الحوار العلني في هذا الملف يخدم المصالح الأردنية أم يتركنا في هامش المجهول؟

نحن أيضًا بحاجة إلى مراجعة جدية لواقع النسيج الاجتماعي. خطابنا الديني، والتربوي، والإعلامي، هل يكرّس المواطنة أم يعيد فرز الناس؟ وهل نصنع بيئة تحتضن التعدد وتحصّنه، أم نُغذّي الانعزال باسم الخصوصية؟

أما الإعلام، فهل يرتقي فعلًا لحجم اللحظة؟ أم أنه يكتفى بدور الناقل الرسمي لما يُقال في أعلى الهرم؟ نحن لا نحتاج إلى طمأنة شكلية، بل إلى فهم حقيقي، وتفكيك للوقائع، وبناء رأي عام قادر على إدراك ما يحدث من حوله.

وفي قلب كل ذلك، يبرز سؤال الدين. في لحظة إقليمية مشتعلة تُستخدم فيها الروايات الدينية كوقود إلى جانب المصالح، تظهر الحاجة إلى مشروع ديني وطني يربط الدين بالمسؤولية، لا بالتديّن الشكلي. لقد ازداد التدين في الأردن، لكن دون أن يُترجم إلى مزيد من الالتزام بالقانون أو تعزيز القيم العامة. الخطر لا يكمن في الحضور الديني، بل في غياب مشروع يوجّهه نحو الدولة، لا بعيدًا عنها؛ نحو الأخلاق، لا المظاهر؛ ونحو المواطنة وسيادة القانون، لا الاصطفاف والانقسام.

في زمنٍ تُملى فيه المواقف تحت وقع الصواريخ، تبدو الأسئلة ترفًا. لكنها في الحقيقة شرط النجاة. ليس أخطر ما في الحرب أن تقع، بل أن تمرّ دون أن نراجع أنفسنا. وحين يُمنع السؤال، يغيب الجواب، وتضيع البوصلة.


مواضيع قد تهمك