د. فايز أبو شمالة
دعوة الرئيس الأمريكي ترامب القيادات
العربية والإسلامية ـ تركيا ومصر والسعودية والإمارات وقطر والأردن ـ للقاء في
نيويورك لبحث وقف إطلاق النار في غزة، وإطلاق سراح الجنود الإسرائيليين الأسرى لدى
المقاومة، والبحث في مستقبل قطاع غزة بعد الحرب، هذا الدعوة الأمريكية لم تأت رأفة
بأهل غزة، ولم تأت استجابة لمطالبة مؤتمر القمة الإسلامي الذي عقد في الدوحة، لا،
ولم تأت تجاوباً مع اعتراف الكثير من العواصم الأوروبية بالدولة الفلسطينية،
اللقاء الذي دعا إليه ترامب جاء استجابة للأوضاع الميدانية على أرض غزة، والتي لا
تصب في مصلحة العدو الإسرائيلي ـ رغم حرب الإبادة الجماعية ـ وفي الوقت نفسه
تتعاكس مع أهداف العدوان الإسرائيلي، بسرعة حسم المعركة، وتحرير الجنود الأسرى،
والقضاء على حركة حماس، واجتثاثها من أرض غزة.
الورطة الإسرائيلية على أرض غزة هي
التي فرضت على الرئيس الأمريكي ترامب أن يتدخل من خلال الدول العربية والإسلامية،
بهدف إنقاذ الجيش الإسرائيلي من فشله، وعجزه عن تحقيق النصر على أهل غزة، وبالتالي
إنقاذ الدولة العبرية من مستنقع غزة، الذي أضحى يرتد على كل مناحي حياة
الإسرائيليين بالخيبة والعجز واليأس والقلق من المستقبل، وقد تكون استطلاعات الرأي
الأخيرة التي أعطت للتحالف الحاكم في إسرائيل 50 مقعداً في الكنيست فيما لو جرت
الانتخابات في هذه الأيام، في الوقت الذي حظيت هذه الحكومة سنة 2022 بعدد 68
مقعداً، هذا التدني في عدد المقاعد يعكس روح الإحباط، وإدراك المجتمع الإسرائيلي
للحقيقة التي فرضتها غزة على أرض الواقع، بأن زمن الانتصارات الإسرائيلية السهلة
قد ولى، وأن للمقاومة الفلسطينية القدرة على التأقلم مع الواقع الجديد، ومواصلة
استنزاف جيش العدو الإسرائيلي الذي عجز حتى اليوم عن السيطرة على مجريات الحياة في
غزة.
لقاء ترامب مع القيادات العربية
والإسلامية جاء بناء على توصيات الأجهزة الأمنية الإسرائيلية والأمريكية، والتي
تقرأ الواقع بعيون المستقبل، وتخترق الصورة الجزئية لمشاهد الحرب على غزة، وهي
تدقق في الصورة الكلية، والتي تعكس تخبط العدو الإسرائيلي في قراراته، وتورط الجيش
الإسرائيلي في سوء تقديراته، انعكاس كل ذلك على المجتمعات العربية، والتي تبدو
هادئة وصامتة في الصورة الجزئية، ولكنها تغلي وتثور في داخلها في الصورة الكلية،
وهذا ما تدركه المخابرات المركزية الأمريكية، والمجتمعات الأوربية التي بدأ حراكها
وتضامنها مع غزة، ورفضها للمحرقة، بدأ يعطي ثماره على أكثر من مستوى، وهذا بحد
ذاته مصدر رعب وقلق للسياسة الأمريكية التي باتت معزولة دولياً، تماماً مثلما باتت
دولة العدو الإسرائيلي منبوذة.
المهزوم في المعركة مكروه ومحتقر، والفاشل لا صديق له، وهذا ما دلل عليه الميدان في غزة، والذي قدم مشاهد وإحداثيات لم يتوقعها كل العالم، بما في ذلك العالم العربي، الذي لم يصدق أن غزة المحاصرة ستصمد سنتين في وجه أقوى جيوش المنطقة، وأكثر جيوش الأرض حقداً وإرهاباً، إنها المعجزة، وإنه الحق الذي يقاتل في شوارع غزة، وإنها إرادة شعب يرفض ان يموت، أو يذوب في مستنقع المساومة، لذلك ظهرت غزة أمام الرأي العام العربي والغربي قوية صلدة رغم حرب الإبادة الجماعية، ومن هنا كانت مشاعر التقدير والإعجاب لأهل غزة أكثر تأثيراً في الجماهير الأوربية والعربية من مشاعر الشفقة، والشعور الإنساني الغاضب والماقت للممارسات الإرهابية الصهيونية.
العدو الإسرائيلي في ورطة، وهو غارق في
مستنقع غزة، ولا يلهث على تراب غزة خلف نصر وهمي كاذب، كلا، إنه يسعى للهروب من
الهزيمة في حرب الوجود، وللهزيمة انعكاسات سلبية رهيبة على حياة الإسرائيليين،
وأمنهم، ومستقبلهم، وبقائهم على تراب فلسطين، وقد يكون ذلك هو منطلق القيادة
الإسرائيلية الحالية، والتي تهرب من مواجهة الحقيقة، والإقرار بالعجز والفشل عن
تحقيق أهداف العدوان، وبالتالي توجيه صفعة قوية لمستقبل الدولة العبرية،
واستقراراها، وبقائها في المنطقة.
الجيش الإسرائيلي بقيادة رئيس الأركان
آيال زمير يدرك حقيقة العدوان على غزة، ويعترف بأن جيشه يدمر البيوت والأبراج، وأن
يجشه يقتل المدنيين في غزة، ويجبرهم على النزوح إلى المجهول، وأن دبابات جيشه
وطائراته يمكنها الوصول إلى أي نقطة في قطاع غزة، ولكنه يعرف أنه غير قادر على حسم
المعركة، حتى وهو يجتاح بدباباته كل أحياء غزة وشوارعها، فالجيش الإسرائيلي يعرف
أنه أعجز عن تقديم الإجابة الشافية للمجتمع الإسرائيلي عن السؤال الكبير: وماذا
بعد دخول الدبابات الإسرائيلية إلى ساحة غزة وميادين غزة؟ هل تحقق النصر
الإسرائيلي المزعوم؟ ولماذا لم تحرروا الجنود الإسرائيليين الأسرى؟ لماذا لم
تكتشفوا أماكن الجنود الإسرائيليين الأسرى في قطاع غزة، والذي لا تتجاوز مساحته
ربع مساحة نيويورك؟ وأنتم تعرفون تفاصيل الحياة التي يعيشها قادة أركان جيوش
المنطقة؟ وكبار قادتها؟ لماذا لم تهزموا حركة حماس المحاصرة من سنوات بلا مدد؟
ولماذا لم تتم هزيمة المقاومة الفلسطينية التي أطلقت صواريخها قبل يومين على أسدود
وعسقلان، من المناطق التي تم احتلالها من الجيش الإسرائيلي عدة مرات؟
جاء لقاء الرئيس الأمريكي ترامب مع القيادات العربية والإسلامية لإنفاذ العدو الإسرائيلي من خيبته، ومن عجزه، ومن فشله، وجاء اللقاء للالتفاف على حركة حماس من الظهر، بعد أن عجزوا عن تصفية المقاومة في المواجهات، وهذا ما يملي على رجال المقاومة أن يكونوا حذرين في التعاطي من مخرجات اللقاء الأمريكي المشبوه، وهذا ما يفرض على القيادات العربية والإسلامية أن تستثمر اللحظة الميدانية، وانعكاسها على المجتمعات الدولية لصالح القضية الفلسطينية بشكل عام، ولصالح الصراع العربي الإسلامي الإسرائيلي، وألا تشكل ضغطاً دبلوماسياً وإنسانياً وسياسياً على حركات المقاومة، وألا يستعجلوا في الاستجابة لمقترحات ترامب، فغزة الأمة العربية والإسلامية صامدة، وغزة باقية، وقادرة على الصمود، وهي التي صمدت سنتين في وجه حرب الإبادة الجماعية، وهي التي تفرض معادلات سياسية جديدة لا على مستوى القضية الفلسطينية، وإنما على مستقبل المنطقة برمتها، إن لم يكن على مستوى العالم الذي أفاق على أكاذيب الصهاينة.
كاتب فلسطيني/غزة
رأي اليوم