د. محمد أبو رمان
جاء قرار وزارة التربية والتعليم بإضافة ثلاثة تخصصات جديدة إلى التعليم المهني والتكنولوجي بنظام BTEC ليعكس التحوّل المتسارع في رؤية الدولة الأردنية تجاه هذا النمط من التعليم، وهذا التوسّع ليس خطوة إجرائية عابرة، بل يعكس إدراكاً متنامياً بأن مواجهة البطالة التي بلغت في السنوات الأخيرة مستويات مقلقة بين الشباب تحتاج إلى مسار غير تقليدي يعيد ربط المدرسة بسوق العمل، ويوفر مهارات مباشرة وقابلة للتوظيف.
يمكن القول إنّ إدخال نظام BTEC إلى الأردن يمثل مساراً جديداً نحو بناء تصورات جيل الشباب للمستقبل وفلسفة الدولة في الربط بين التعليم والعمل؛ ويرتبط هذا النظام بمنظومة بيرسون البريطانية العالمية، التي توفر برامج مهنية قائمة على التعلم التطبيقي ومهارات القرن الحادي والعشرين، الأمر الذي منح التجربة الأردنية مصداقية أكبر، وجذب شريحة جديدة من الطلاب وأهاليهم ممن كانوا ينظرون بحذر إلى التعليم المهني التقليدي.
هذا التحول لم يأتِ من فراغ. فالأردن، الذي يعاني من معدلات بطالة شبابية تتراوح حول 40%، يقف أمام مفارقة صارخة: سوق العمل متخمٌ بعمالة وافدة في القطاعات التقنية والمهنية، فيما يعجز آلاف الخريجين عن إيجاد وظائف في تخصصاتهم الأكاديمية التقليدية. هذه المفارقة كشفت عمق الخلل في هيكلة سوق العمل، وأظهرت أنّ الحل لا يكمن في زيادة الوظائف الحكومية ولا في إعادة تدوير أنماط التعليم القديمة، بل في بناء مسار مهني متطور يرتبط فعلياً بالطلب الحقيقي في الاقتصاد.
من هنا تأتي أهمية هذا المسار الاستراتيجي الوطني فتجربة BTEC البريطانية، التي تعد واحدة من أنجح التجارب العالمية في ربط المدرسة بسوق العمل، تعطي مؤشراً عملياً على ما يمكن أن يتحقق في الأردن إذا استمرت العملية بنفس الزخم. ففي بريطانيا، أصبح هذا النظام جزءاً أساسياً من منظومة التعليم لما بعد الإلزامي، وتخرّج عبره عشرات الآلاف من الطلاب الذين انتقلوا مباشرة إلى وظائف نوعية في مجالات التكنولوجيا، والإدارة، والهندسة، والتصميم، والرعاية الصحية، والصناعات الإبداعية. ويُنظر إليه بوصفه نموذجاً خلاقاً للتعليم المبني على المشروعات، والتقييم المستمر، والمهارات العملية، وليس على الحفظ والامتحانات النهائية فقط.
على الجهة المقابلة لا يسعى الأردن إلى استنساخ نموذج خارجي بقدر ما يحاول بناء مسار مهني قادر على استيعاب احتياجات اقتصاده. ولذلك جاءت إضافة التخصصات الثلاثة الجديدة (رعاية الطفولة المبكرة، هندسة الطيران والالعاب الإلكترونية) خطوة مكملة لعملية توسّع أوسع في نوع البرامج المقدمة، بحيث تغطي مجالات مستقبلية مثل التكنولوجيا الرقمية، السياحة المتقدمة، الرعاية الصحية، اللوجستيات، الصناعات الإبداعية، وهي القطاعات التي تشهد نمواً متسارعاً في الاقتصاد الأردني والإقليمي.
إنّ ما يميّز هذا المسار اليوم هو أنّه بدأ يحقق ما كان التعليم الأكاديمي يفشل فيه: توفير مهارات مباشرة تجعل الطالب «جاهزاً للعمل» فور التخرج. فمدارس BTEC باتت تركز على التدريب العملي، وعلى بناء شراكات مع القطاع الخاص، وعلى وضع معايير تقييم تواكب المهارات المهنية المطلوبة. والأهم أنّ الخطاب المجتمعي نفسه بدأ يتغير، إذ لم يعد النظر إلى التعليم المهني باعتباره «خياراً اضطرارياً»، بل خياراً واقعياً لمستقبل أفضل.
نجاح هذا المسار له نتائجه وأثاره الاستراتيجية المهمة والرئيسية على الأمن القومي الأردني؛ لارتباطه الوثيق بمعضلة البطالة والخريجين والأبعاد الاقتصادية والسياسية؛ فإذا نجح الأردن في رفع نسبة الملتحقين بالتعليم المهني إلى 50% من خريجي المدارس، فإنّ ذلك سيعيد تشكيل خريطة سوق العمل جذرياً، وسيسهم في تقليل الاعتماد على العمالة غير الأردنية، وتوفير مئات الآلاف من الفرص للشباب عبر مهن جديدة وحديثة. ومع ذلك، يبقى النجاح مرهوناً باتساع الشراكة مع القطاع الخاص، وباستمرار تحديث المناهج، وبإقناع الأهالي والطلاب بأن هذا المسار ليس مجرد «تعليم تقني»، بل هو بالفعل مفتاح ذهبي للمستقبل.
أيها السادة؛ لقد اختلفت مفاهيم القوة والأمن اليوم ولم تعد كما كانت سابقاً، وهذا النظام الجديد، الذي يعيد تعريف أهداف التعليم الوطني وفلسفته ويطوّر منظور الأجيال الجديدة لأدوارهم ومهاراتهم، ومن المتوقع أن يساهم في خفض معدلات البطالة وتعزيز المهارات التدريبية بجوار الطاقات الأكاديمية فإنّه بحق يعدّ مشروعاً ورهاناً استراتيجياً وطنياً كبيراً ومفتاحاً ذهبياً لمستقبلنا جميعاً.
"الدستور"
د. محمد أبو رمان
جاء قرار وزارة التربية والتعليم بإضافة ثلاثة تخصصات جديدة إلى التعليم المهني والتكنولوجي بنظام BTEC ليعكس التحوّل المتسارع في رؤية الدولة الأردنية تجاه هذا النمط من التعليم، وهذا التوسّع ليس خطوة إجرائية عابرة، بل يعكس إدراكاً متنامياً بأن مواجهة البطالة التي بلغت في السنوات الأخيرة مستويات مقلقة بين الشباب تحتاج إلى مسار غير تقليدي يعيد ربط المدرسة بسوق العمل، ويوفر مهارات مباشرة وقابلة للتوظيف.
يمكن القول إنّ إدخال نظام BTEC إلى الأردن يمثل مساراً جديداً نحو بناء تصورات جيل الشباب للمستقبل وفلسفة الدولة في الربط بين التعليم والعمل؛ ويرتبط هذا النظام بمنظومة بيرسون البريطانية العالمية، التي توفر برامج مهنية قائمة على التعلم التطبيقي ومهارات القرن الحادي والعشرين، الأمر الذي منح التجربة الأردنية مصداقية أكبر، وجذب شريحة جديدة من الطلاب وأهاليهم ممن كانوا ينظرون بحذر إلى التعليم المهني التقليدي.
هذا التحول لم يأتِ من فراغ. فالأردن، الذي يعاني من معدلات بطالة شبابية تتراوح حول 40%، يقف أمام مفارقة صارخة: سوق العمل متخمٌ بعمالة وافدة في القطاعات التقنية والمهنية، فيما يعجز آلاف الخريجين عن إيجاد وظائف في تخصصاتهم الأكاديمية التقليدية. هذه المفارقة كشفت عمق الخلل في هيكلة سوق العمل، وأظهرت أنّ الحل لا يكمن في زيادة الوظائف الحكومية ولا في إعادة تدوير أنماط التعليم القديمة، بل في بناء مسار مهني متطور يرتبط فعلياً بالطلب الحقيقي في الاقتصاد.
من هنا تأتي أهمية هذا المسار الاستراتيجي الوطني فتجربة BTEC البريطانية، التي تعد واحدة من أنجح التجارب العالمية في ربط المدرسة بسوق العمل، تعطي مؤشراً عملياً على ما يمكن أن يتحقق في الأردن إذا استمرت العملية بنفس الزخم. ففي بريطانيا، أصبح هذا النظام جزءاً أساسياً من منظومة التعليم لما بعد الإلزامي، وتخرّج عبره عشرات الآلاف من الطلاب الذين انتقلوا مباشرة إلى وظائف نوعية في مجالات التكنولوجيا، والإدارة، والهندسة، والتصميم، والرعاية الصحية، والصناعات الإبداعية. ويُنظر إليه بوصفه نموذجاً خلاقاً للتعليم المبني على المشروعات، والتقييم المستمر، والمهارات العملية، وليس على الحفظ والامتحانات النهائية فقط.
على الجهة المقابلة لا يسعى الأردن إلى استنساخ نموذج خارجي بقدر ما يحاول بناء مسار مهني قادر على استيعاب احتياجات اقتصاده. ولذلك جاءت إضافة التخصصات الثلاثة الجديدة (رعاية الطفولة المبكرة، هندسة الطيران والالعاب الإلكترونية) خطوة مكملة لعملية توسّع أوسع في نوع البرامج المقدمة، بحيث تغطي مجالات مستقبلية مثل التكنولوجيا الرقمية، السياحة المتقدمة، الرعاية الصحية، اللوجستيات، الصناعات الإبداعية، وهي القطاعات التي تشهد نمواً متسارعاً في الاقتصاد الأردني والإقليمي.
إنّ ما يميّز هذا المسار اليوم هو أنّه بدأ يحقق ما كان التعليم الأكاديمي يفشل فيه: توفير مهارات مباشرة تجعل الطالب «جاهزاً للعمل» فور التخرج. فمدارس BTEC باتت تركز على التدريب العملي، وعلى بناء شراكات مع القطاع الخاص، وعلى وضع معايير تقييم تواكب المهارات المهنية المطلوبة. والأهم أنّ الخطاب المجتمعي نفسه بدأ يتغير، إذ لم يعد النظر إلى التعليم المهني باعتباره «خياراً اضطرارياً»، بل خياراً واقعياً لمستقبل أفضل.
نجاح هذا المسار له نتائجه وأثاره الاستراتيجية المهمة والرئيسية على الأمن القومي الأردني؛ لارتباطه الوثيق بمعضلة البطالة والخريجين والأبعاد الاقتصادية والسياسية؛ فإذا نجح الأردن في رفع نسبة الملتحقين بالتعليم المهني إلى 50% من خريجي المدارس، فإنّ ذلك سيعيد تشكيل خريطة سوق العمل جذرياً، وسيسهم في تقليل الاعتماد على العمالة غير الأردنية، وتوفير مئات الآلاف من الفرص للشباب عبر مهن جديدة وحديثة. ومع ذلك، يبقى النجاح مرهوناً باتساع الشراكة مع القطاع الخاص، وباستمرار تحديث المناهج، وبإقناع الأهالي والطلاب بأن هذا المسار ليس مجرد «تعليم تقني»، بل هو بالفعل مفتاح ذهبي للمستقبل.
أيها السادة؛ لقد اختلفت مفاهيم القوة والأمن اليوم ولم تعد كما كانت سابقاً، وهذا النظام الجديد، الذي يعيد تعريف أهداف التعليم الوطني وفلسفته ويطوّر منظور الأجيال الجديدة لأدوارهم ومهاراتهم، ومن المتوقع أن يساهم في خفض معدلات البطالة وتعزيز المهارات التدريبية بجوار الطاقات الأكاديمية فإنّه بحق يعدّ مشروعاً ورهاناً استراتيجياً وطنياً كبيراً ومفتاحاً ذهبياً لمستقبلنا جميعاً.
"الدستور"




