بقلم المحامي معتصم صلاح
حملتني رواية ظل الغراب للكاتب سعيد الصالحي إلى عالم جديد، حيث أخذ الخيال دور الواقع، وابتعد الواقع بعيدًا نحو الماضي والموروث، وتداخلت فيه البساطة مع المهارة، لأجد نفسي أقلب صفحات الرواية وألاحق أحداثها، تارة مأخوذًا بتفاصيلها الدقيقة، وتارة أخرى ببساطة التعبير وعمق الشعور والأحاسيس، فكنت أضحك وأحزن وأجد نفسي مندفعا نحو مطبخي لأعد فنجالا من القهوة، لعلني أعيش هذه الرواية برشفة من القهوة وسحابة من سيجارة أنفثها في محاولة لمحاكاة تجربة الراوي.
دفعتني رواية الصالحي أن أعيد النظر في العديد من الأمور التي كنت أمر عليها ولم تستوقفني يومًا، والأهم من هذا أنني كنت أتمنى ألا تنتهي الرواية، وخصوصًا عندما تتسارع أحداثها في فصولها الأخيرة، وعندما انتهت الرواية كنت أتمنى أن أجد كلمة "يتبع"، فهذه الرواية مزيج من المشاعر التي تقفز من السطور والصفحات لتسكن قلبك، ومجموعة من الأسئلة الفلسفية التي تستفز عقلك للبحث عن اجابات، وكثيرًا ما كنت أشعر أنها أطلس للوطن الذي يعيش فيه الراوي أو ذاك الذي لم يعرفه يومًا.
يبحث الراوي طوال الرواية عن المعرفة والحقيقة، ولكنه يواجه طوال الرواية موروثه قبل أن يواجه الأحداث والشخوص، وكانت الموسيقى بالنسبة له بساط سحري تحمله إلى الديار كلما عصف به الحنين وأرهقته الوحدة، فأشجار بنغلادش وبحيراتها ونهرها وطبيعتها لم تغلب شجر اللوز في بلادنا.
كانت الحوارات في الرواية مميزة وعميقة، وكانت تحمل في ثناياها رسائل وفلسفة وجودية، وكثيرا ما كان "الطيب" يفاجئني بردة فعله أو تعاطيه مع المواقف، فكنت احتار في أمره أكثر من حيرتي "بالشيخ بدر الخير" أو "ابن الداسم"، وخلال رحلتي في صفحات هذه الرواية كانت تتجلى القيم الانسانية والتناقضات البشرية والصراع مع الذات قبل الصراع من الوسادة أو غيرها في "معركة ذات الوسائد".
أن الخيط الرفيع الذي غزله الصالحي بين "الخضر" و"القشيري" و"بدر الخير" في روايته للدخول إلى عالم الصوفية وفلسفتها يشبه تماما الخيط الرفيع الذي كان يتبعه الراوي طوال الرواية بحثا عن صندوق المعرفة تارة نابشا للقبور وتارة محطما في حديقة عامة، متنقلا بين البلدان حتى تحط به الرحال في بلاده.
رواية ظل الغراب من الروايات التي لا يمل القارئ وهو يقلب صفحاتها، وستبقى شاهدة على فترة جديدة من تاريخنا، وكلما مر الوقت ستأخذ هذه الرواية قيمة أكثر وأكبر بالذات للذين سمعوا عن تجربة الكورونا ولم يعيشوها.