شريط الأخبار

"أبو جهاد" والرنتيسي بندقيتان لم تخطئا الطريق

أبو جهاد والرنتيسي بندقيتان لم تخطئا الطريق
كرمالكم :  
علي سعادة
بندقيتان كانتا منصوبتان على تخوم أرض المعركة، بوصلة واحدة لم تعرف لها وجهة سوى فلسطين، أحدهما كان أول الرصاص وأول الحجارة، ورفيقه في الكفاح وضع الأسس التي قامت عليها المقاومة في قطاع غزة وأول صواريخ القسام. 
كلاهما كان الأول في صناعة البطولة وتقديم النفس رخيصة في ساحات الشرف. 
كلاهما كانا بداية لمشروع جهادي تحرري، وشكلا القاعدة الصلبة للانتفاضة الفلسطينية الأولى التي انطلقت في عام 1987، ووضعهما الاحتلال منذ توقد تلك الشرارة هدفا للتصفية الجسدية. 
كلاهما وجها بندقيتهما نحو فلسطين والقدس، ورفضا الانزلاق في معارك ثانوية وهامشية، وكلاهما اغتالهما الاحتلال خلسة وبطريقة ماكرة وجبانة. 
والاثنان بالأصل من الضفة الغربية اضطرتهما ظروف النكبة إلى مغادرة بلدتهما الأصلية إلى قطاع غزة، ودرسا أيضا في جامعة الإسكندرية بمصر. 
أحدهما كان عبد العزيز الرنتيسي، المولود في عام 1947، والمنحدر من عائلة من قرية رنتيس شمال غرب رام الله، واضطرت عائلته لمغادرة القرية في بداية الأربعينيات بسبب خلاف مع إحدى عائلات القرية، وأيضا بسبب حرب 1948. 
وحين كان الرنتيسي طفلا عمره عشرة أشهر، وقعت النكبة، فنزح مع عائلته من موطنها في قرية بانا بين عسقلان ويافا لاجئين إلى مخيم خان يونس في قطاع غزة. 
حصل على شهادة البكالوريوس في الطب العام من جامعة الإسكندرية عام 1971، ثم على الماجستير. 
وعمل في الجامعة الإسلامية في غزة منذ افتتاحها عام 1978 محاضرا يدرس في العلوم وعلم الوراثة وعلم الطفيليات.  
رحلته مع الاعتقالات بدأت في عام 1983 بسبب رفضه دفع الضرائب لسلطات الاحتلال. 
ثم أسس مع مجموعة من نشطاء "الحركة الإسلامية" في قطاع غزة تنظيم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في القطاع عام 1987، وكان أول من اعتقل من قادة الحركة في عام 1988 بعد توقد جمر الانتفاضة الفلسطينية الأولى . 
أبعده الاحتلال لاحقا في عام 1992 مع أكثر من 400 شخص من نشطاء وكوادر حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" إلى جنوب لبنان في المنطقة المعروفة بـ"مرج الزهور"، حيث برز كناطق رسمي باسم المبعدين، وفور عودته من "مرج الزهور" اعتقلته قوات الاحتلال وحكم عليه بالسجن وبقي في الأسر حتى عام 1997. 
وبلغ مجموع فترات الاعتقال التي قضاها في السجون الإسرائيلية سبع سنوات بالإضافة إلى السنة التي قضاها مبعدا في مرج الزهور، كما أنه اعتقل في سجون السلطة الفلسطينية أربع مرات معزولا عن بقية المعتقلين. 
ارتبط الرنتيسي بالشيخ أحمد ياسين منذ عام 1971، فعمل معه وبجواره كتلميذ ورفيق سنوات طويلة في العمل الإسلامي، وجمعهما المعتقل الإسرائيلي ثلاث مرات، وأسسا معا مؤسسة "المجمع الإسلامي" في عام 1975 و"مجد المجاهدين" عام 1984، وفي عام 1987 أنشأ حركة "حماس" التي ظل الرنتيسي يشغل الموقع الثاني في قيادتها، وأصبح ثالث أهم شخصية فلسطينية، بعد الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات والشيخ ياسين. 
بعد استشهاد الشيخ ياسين عام 2004، بايعته "حماس" قائدا لها في الداخل، وبعد توليه قيادة "حماس" حمل بندقية كلاشنكوف وقال: "هذا هو حوارنا مع الصهاينة وهذا هي طريقنا لتحرير الأقصى". 
وفي أول قيادة له لـ"حماس" أمر بتنفيذ عملية ميناء أشدود، فكانت هذه العملية هي الشرارة التي وضعته على قائمة الاغتيال، حيث قامت في 17 نيسان عام 2004 مروحية إسرائيلية تابعة لجيش الاحتلال بإطلاق صاروخ على سيارته فارتقى شهيدا. 
واجتمع مجلس الأمن الدولي لبحث قضية اغتياله، وقبلها بأيام اجتمع لمناقشة اغتيال الشيخ ياسين، واستخدمت أمريكا، كما هو معتاد ومتوقع، حق النقض "الفيتو" ضد إدانة الكيان الصهيوني. 
شارك في تشييعه ومرافقيه اللذين استشهدا معه أكثر من نصف مليون فلسطيني في غزة وحدها، وأقيمت عليه الصلوات في معظم الدول العربية والإسلامية. 
كان يعتبر سياسيا صلبا وعقلانيا، ويوصف بأنه متعدد المواهب وذو طاقة جعلته يسد أي ثغرة تبدو له في مسيرة الدعوة، فهو إلى جانب دراسته العلمية وتخصصه في طب الأطفال، كان كاتبا وشاعرا وخطيبا ورجل إعلام وداعية وسياسي وثائر ومصلح اجتماعي. 
كان من أشد الحريصين على تعميق الوحدة الوطنية، وعرف بمواقفه الشجاعة لدرجة أن البعض كان يفضل أن يطلق عليه لقب "الطبيب الثائر" أو "صقر حماس"، وعلى النقيض من ذلك، فقد كان ليناً مع إخوانه في "حماس" لا يقطع أمرا من دون مشاورتهم، ورغم تعرضه لعدة محاولا لاغتياله، فقد كان جانب الحذر غائبا عنده. 
جمع الرنتيسي "أبو محمد" بين الشخصية العسكرية والسياسية والدينية، وتمتع بالهيبة وحظي باحترام ومحبة أغلب شرائح الشعب الفلسطيني والعربي والإسلامي. 
نصفه الآخر كان الشهيد خليل الوزير، الذي عرف باسمه الحركي "ابو جهاد" المولود في عام 1935 في بلدة الرملة الفلسطينية التي غادرها إلى غزة إثر حرب 1948 مع أفراد عائلته. 
درس "أبو جهاد" في جامعة الإسكندرية، ثم انتقل إلى السعودية فأقام فيها أقل من عام، ومن السعودية توجه إلى الكويت، حيث بقي هناك حتى عام 1963. وهناك تعرف على ياسر عرفات وساهم معه عام 1963 في إعلان تأسيس حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) وتولى مسؤولية العمليات في الأراضي المحتلة. 
في عام 1963 غادر الكويت إلى الجزائر حيث سمحت السلطات الجزائرية بافتتاح أول مكتب لـ"فتح"، وتولى "أبو جهاد" مسؤولية ذلك المكتب. 
وفي عام 1965، غادر الجزائر إلى دمشق حيث أقام مقر القيادة العسكرية، وكلف بالعلاقات مع الخلايا الفدائية داخل فلسطين، كما أنه شارك في حرب حزيران عام 1967، وقام بتوجيه عمليات عسكرية ضد جيش الاحتلال في منطقة الجليل الأعلى. 
تولى بعد ذلك المسؤولية عن القطاع الغربي في "فتح" الذي كان يدير العمليات في الأراضي المحتلة. وعكف على تطوير القدرات القتالية لقوات الثورة، وكان له دور بارز في قيادة معركة الصمود في بيروت عام 1982 خلال الغزو الصهيوني للبنان. 
تقلد "أبو جهاد" العديد من المناصب  فقد كان أحد أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني، وعضو المجلس العسكري الأعلى للثورة، وعضو المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية، ونائب القائد العام لقوات الثورة، ولعب دورا محوريا في انطلاقة الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987. 
كان القرار الإسرائيلي باغتيال خليل الوزير قد اتخذ في أعقاب العملية الجريئة التي خطط لها بإنزال مجموعة من الفدائيين إلى شواطئ تل أبيب، ثم التوجه بعد ذلك إلى مقر وزارة الدفاع الإسرائيلية في منطقة "الهاكرياه" وأسر كبار الضباط والعاملين في الوزارة بما فيهم إسحاق رابين وزير الدفاع آنذاك، لتكون تعبيرا عن رؤيته القائلة: "سنجبر إسرائيل على البقاء في حالة استنفار". 
بعد العملية أمر قائد سلاح البحرية بن شوشان، بوضع سلاح البحرية في حالة تأهب عليا، ووضع دوريات بحرية لإغلاق شواطئ فلسطين المحتلة بصورة دائمة، لكن هذا الاحتراز الأمنية لم تمنع "أبو جهاد" من مواصلة تنفيذ عمليات أكثر جرأة وأشد إيلاما للاحتلال. 
رغم أن العملية لم تنجح تماما كما خطط لها "أبو جهاد"، فقد كانت بالنسبة للقيادة الإسرائيلية "ناقوس خطر". 
شعر الاحتلال بخطورة "أبو جهاد" فقرر تصفيته، تم تكليف الوحدة الخاصة لهيئة الأركان الجيش، وسلاح البحرية الإسرائيلي و"الموساد" بإعداد خطة اغتيال "أبو جهاد". وأوكلت مهمة قيادة فريق التنفيذ لنائب رئيس هيئة أركان الجيش آنذاك ايهود باراك، وأشرف الجنرال موشيه يعلون رئيس هيئة الأركان الإسرائيلية فيما بعد على سير عملية التنفيذ بالتعاون مع شبتاي شبيط نائب رئيس جهاز "الموساد" آنذاك. 
وفي 16 نيسان عام 1988، أنزل الاحتلال 20 عنصرا مدربين من قواته من أربع سفن وغواصتين وزوارق مطاطية وطائرتين عموديتين للمساندة على شاطئ الرواد قرب ميناء قرطاج بتونس. وبعد مجيء الوزير إلى بيته كانت اتصالات عملاء "الموساد" تنقل الأخبار، فتوجهت هذه القوة الكبيرة إلى منزله فقتلوا الحراس وتوجهوا إلى غرفته، فاستقرت به سبعون رصاصة ليرتقي شهيدا . 
وأدانت وزارة الخارجية الأمريكية قتل "أبو جهاد" باعتباره "فعل اغتيال سياسي"، كما "شجب" مجلس الأمن "العدوان الذي ارتكب ضد السيادة وسلامة الأراضي التونسية"، دون أن يخص دولة الاحتلال بالذكر. 
فارسان عربيان ترجلا بعد مسيرة طويلة من المقاومة والبطولة والشهادة. 
شهيدان اصطفاهما الله مع من اصطفوا قبلهما وبعدهما عبر مسيرة الكفاح الوطني الفلسطيني، تغدق أرواحهم الطاهرة على البنادق عطورا وزنابق، ويتدفق نهر الدم في طرقات نابلس وغزة وجنين والخليل، ويزركش دمهما حجارة القدس العتيقة. 
وباتت عبارة "أبو جهاد" الشهيرة: "البوصلة لن تخطئ الطريق، ستظل تشير إلى فلسطين" تلخيصا واقعيا لمسيرة حياته كاملة لهما.
السبيل

مواضيع قد تهمك