المهندس نضال البيطار
الرئيس التنفيذي لجمعية شركات تقنية المعلومات والاتصالات - انتاج
في عصر المعلومات الذي نعيشه، أصبحت السيادة الرقمية، أو ما يمكن تسميته بالاستقلال الذاتي الاستراتيجي الرقمي، حجر الزاوية لتأمين مستقبل دولنا في كافة نواحي الحياة والمجالات، حيث تتجاوز هذه السيادة مجرد التحكم بالبنية التحتية الرقمية والبيانات إلى ضمان قدرة الدول على اتخاذ قرارات مستقلة وفعالة في العالم الرقمي، وهي قضية باتت تشغل بال العديد من صانعي السياسة حول العالم.
السيادة الرقمية تُعبر عن القدرة على إدارة وسيطرة الدول على مصيرها في العالم الرقمي، شاملةً البيانات، الأجهزة، والبرمجيات التي تستخدمها وتطورها، إذ أن هذه المسألة باتت تثير قلق عدد كبير من المسؤولين السياسيين، الذين يلاحظون أن السيطرة تتمركز بشكل مفرط في عدد محدود من الأماكن، مما يقلل من التنوع في خيارات سوق التكنولوجيا ويمنح نفوذاً زائداً لعدد قليل من الشركات التكنولوجية الكبرى.
الدروس المستفادة من تجارب الدول مثل الصين، والاتحاد الأوروبي، وروسيا، تشير إلى أهمية الاستقلال في التكنولوجيا والبيانات لتعزيز الأمن القومي والتنافسية الاقتصادية، ومع ذلك، تبرز الحاجة إلى استراتيجية عربية موحدة تأخذ بعين الاعتبار خصوصيات المنطقة وتحدياتها الفريدة لتحقيق السيادة الرقمية.
فالصين على سبيل المثال، تركز على الابتكار وتطوير التقنيات الحديثة مثل الذكاء الصناعي وشبكات الجيل الخامس، ما يعزز استقلاليتها التكنولوجية ويقلل من الاعتماد على التقنيات الأجنبية، اما الاتحاد الأوروبي لديه استراتيجية محددة للسيادة الرقمية تهدف إلى تعزيز استقلاله وقدرته على التحكم في البنية التحتية الرقمية، البيانات، والتكنولوجيا ضمن حدوده، حيث تشمل تلك الاستراتيجية تعزيز البنية التحتية الرقمية والأمن السيبراني، حماية البيانات والخصوصية، تشجيع الابتكار والتقنيات المحلية، تطوير المهارات الرقمية، الحكم الرقمي والديمقراطية الرقمية، والسوق الرقمية الواحدة والتي تسعى إلى إزالة الحواجز التي تحول دون حرية تدفق البيانات والخدمات الرقمية عبر الدول الأعضاء، لتعزيز الابتكار والنمو الاقتصادي في السوق الرقمية الواحدة.
أما روسيا، فبتشريعاتها حول السيادة الرقمية، تسعى لتأمين استقلالها في الفضاء الرقمي من خلال تطوير بنية تحتية رقمية مستقلة وتعزيز أمنها السيبراني، وتركز على تطوير التكنولوجيا المحلية والاستثمار في الأمن السيبراني وتبذل مؤسساتها جهودًا متواصلة لحماية البيانات الوطنية وعدم الاعتماد على الحلول والنُظم الأجنبية.
إن الركائز الأساسية للاستراتيجية العربية الموحدة التي أدعو إليها لا بد أن تشمل تعزيز البنية التحتية الرقمية إذ من الضروري تطوير شبكات اتصال قوية ومستقلة تضمن الوصول الشامل للمواطنين إلى الخدمات الرقمية، مع التركيز على الأمن السيبراني لحماية هذه البنية التحتية من الهجمات السيبرانية. بالإضافة إلى وجوب وضع تشريعات عربية موحدة تضمن حماية البيانات والخصوصية عبر الدول العربية لبناء ثقة المواطنين في الخدمات الرقمية وتعزيز الاستقلالية الرقمية. كما أن تشجيع البحث والتطوير في القطاعات التكنولوجية الناشئة واعتبار ذلك استثمارا وليس كلفة، ودعم المشاريع الرقمية المحلية تساهم بشكل كبير في تقليل الاعتماد على الحلول الأجنبية وتعزيز الاقتصاد الرقمي العربي، كما أن إطلاق برامج تعليمية وتدريبية لتطوير المهارات الرقمية للشباب العربي، مهم جدا لإعدادهم للمستقبل الرقمي وضمان مشاركتهم الفعالة في الاقتصاد الرقمي.
لتحقيق هذه الاستراتيجية، من الضروري توحيد الجهود بين الحكومات العربية، القطاع الخاص، المؤسسات التعليمية، والمجتمع المدني. إذ لابد أن تتبنى الدول العربية رؤية مشتركة تكاملية تضع السيادة الرقمية في صميم التخطيط الاستراتيجي، مع التأكيد على التعاون الإقليمي والاستفادة من الخبرات المشتركة.
وأخيرا وليس آخرا، فإن السيادة الرقمية
تعني أكثر من مجرد التحكم في البنى التحتية والبيانات؛ إنها تعني تعزيز قدرة الأمم
على التصرف بشكل مستقل ومسؤول في الفضاء الرقمي، مما يساهم في تحقيق التقدم
الاقتصادي والاجتماعي وعدم السماح لأي جهة لابتزازها. وبناء عليه آن الأوان للعرب
مجتمعين أن يعملوا معا على استراتيجية موحدة تعزز السيادة الرقمية وتؤمن مستقبلًا
رقميًا مزدهرًا للأجيال القادمة.