د.محمد ابورمان
ثلاثة ادّعاءات سقطت في حرب الإبادة التي ترتكبها بها إسرائيل، على مرمى العالم بأسره، في قطاع غزّة، لعلّ أكثرها صراحة وسفوراً قضية حقوق الإنسان التي طالما رفعها الغرب المعاصر، قضية مقدّسة تسكن في صميم الثقافة الديمقراطية الليبرالية. لم تكشف هذه الأكذوبة فقط تجاه الصمت المخزي والمخيّب من أغلب الدول الغربية الديمقراطية، بخاصة التي طالما استخدمت هذه "الفزّاعة" في علاقتها مع الدول العربية، تجاه ما يحدُث في غزّة، بل أيضاً سقطت في الغرب نفسه، وفي معاقله العلمية والأكاديمية والفكرية، وتهاوت معها استقلالية الإعلام الغربي وقيمة الحريات الأكاديمية في أكثر الجامعات عراقة في العالم.
صحيحٌ أنّ حكومات غربية وقوى سياسية وجموعا في الشارع تحرّكت غاضبةً في عديد من العواصم الغربية والأوروبية رفضاً لهذه الجريمة الكبرى، مثلما فعلت حكومات إسبانيا والنرويج والبرازيل وبلجيكا، والأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غويتريس، وعديد من المنظمّات الدولية المحايدة، لكن ذلك لم يكن ليؤثّر أو يحول دون استمرار بينامين نتنياهو وفريقه النازي بقتل الأطفال وتجويعهم حتى الموت، وقصف المستشفيات والمساجد وتدمير كل معاني الحياة في غزّة، وتهجير الناس جميعاً، وإعدام المدنيين بدمٍ بارد! لم يقف "العالم الحرّ" وقفةً حاسمة مع قيمة الحرية التي جعلها عنواناً للحضارة الغربية، بل سارعت الدول الكبرى، أميركا وبريطانيا وفرنسا (التي شهدت ارتباكاً في مواقفها) لدعم إسرائيل، منذ البداية، بكل أنواع الأسلحة والمعدّات لقتل أطفالٍ صغار، فظهر وراء قناع الديمقراطية والحضارة وجه آخر مختلف وفوقي في تعامله مع الحضارات والشعوب الأخرى.
من قال إنّ الحداثة والرأسمالية الغربية بُنيتا بصورة بريئة وموضوعية على قيم وأخلاق الحرية والتحرّر والحضارة والمدنية تجاه العالم، هي فقط تجاه الشعوب الغربية، لكنها (تلك الروح) لم تتخلّ في أيّ وقتٍ عن النظرة العدائية للآخرين، ولم يكن صموئيل هانتنغتون، أحد أبرز الأكاديميين الغربيين اللامعين في الغرب، ليخترع مصطلحاً جديداً عندما تنبّأ بـ"صدام الحضارات" في مرحلة مبكّرة، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. ولم يكن المفكّر الفلسطيني إدوارد سعيد بعيداً عن التوصيف والتفيكك الحقيقي لهذه الأفكار في كتابه المرجعي "الاستشراق". وليس سرّاً أن كثيرين من زعماء الغرب وسياسيية أخذوا أفكارهم وتصوّراتهم عن المنطقة العربية والإسلامية من المستشرق المعروف، برنارد لويس، بنظرته السلبية تجاه التاريخ والتراث والواقع العربي.
كلّ ما كُتب ونشر من أدبيات قومية أو ظهر من خطابات سياسية عن "الأمن القومي" العربي والتكامل لم يعد اليوم مطروحاً
أمّا الادعاء الثاني الذي سقط في هذه الحرب فهو كل نظريات القومية أو الأمن القومي العربي. صحيح أنّ هذه النظريات بدأت بالتفكك قبل ذلك بكثير، ورأينا كيف أنّ مواقف سياسية واضحة واتجاهات لنخب سياسية معلنة بدأت تعلن أنّ القضية الفلسطينية ليست القضية المركزية لدى الدول العربية، وأنّ هنالك أولويات ومصالح مختلفة لدول عربية عديدة، لكن ذلك تكرّس واضحاً مع الحرب الحالية على غزّة، مع هذا التخاذل الكبير والفظيع من الدول العربية تجاه هذه الإبادة.
لم يفعل العرب الكثير لفلسطين، لكن القضية كانت، في الحدّ الأدنى، خلال عقودٍ سابقة، قيمة لا جدال فيها في الأمن القومي العربي، وبقيت عنواناً وشعاراً من شعارات الأنظمة، ثورية كانت هذه الأنظمة أو محافظة وتقليدية، فيما اختفت تماماً اليوم تلك الخطابات والادّعاءات والشعارات، ولم تعد حتى مؤتمرات القمة الفلكلورية تحمل الادّعاءات نفسها.
ليست المسألة فقط الموقف من حركة حماس، ولا مما يسمّى "محور الممانعة"، بل هي التحوّل الجوهري الكبير تجاه القضية الفلسطينية نفسها، وحتى تجاه المشاعر والمصالح القومية المشتركة، وكل ما كُتب ونشر من أدبيات قومية أو ظهر من خطابات سياسية عن "الأمن القومي" العربي والتكامل لم يعد اليوم مطروحاً بأيّ حالٍ على الطاولة، بل أصبح واضحاً أنّ هنالك رؤى وتصوّرات متباينة ومتضاربة تجاه النظام الإقليمي والموقف من إسرائيل وأميركا و"مركزية القضية".
الأولوية الإيرانية هي العراق وسورية ومناطق النفوذ، والسلوك الإيراني براغماتي، يقوم على مفهوم الصفقة والتفاوض لتعزيز المكتسبات الإقليمية
إذا تجاوزنا المواقف القومية، فالدول الإسلامية ليست أفضل حالاً، حتى تركيا التي شكّل زعيمها رجب طيب أردوغان، في الفترة السابقة، ظاهرة سياسية - إعلامية في الموقف من إسرائيل، تراجع خطواتٍ إلى وراء هذه المرّة، فضلاً عن باقي الدول، مثل إندونسيا وماليزا وباكستان. وهي ظاهرةٌ، للأمانة، لم تقتصر على الحكومات، بل أصابت الشارع في دول إسلامية وعربية كثيرة، إذ رأينا مظاهرات ومسيرات في واشنطن ولندن أكبر من الشوارع الإسلامية العريقة!
الادعاء الثالث هو "وحدة الساحات" والرهان على الدور الإيراني وعلى حلف الممانعة، حتى المشاغلات والمشاغبات من المليشيات والقوى التي تتبع لهذا المحور لم تتجاوز الإطار التكتيكي وحدود اللعبة التي رسمتها واشنطن وطهران مسبقاً. ليست غزّة أولوية لطهران وحلفائها، وكل ما قيل عن "خطوط حمراء" إيرانية (منها عدم السماح بتدمير غزّة وبالحرب البرّية) لم يصمُد، فالأولوية الإيرانية هي العراق وسورية ومناطق النفوذ، والسلوك الإيراني براغماتي، يقوم على مفهوم الصفقة والتفاوض لتعزيز المكتسبات الإقليمية، وليس غريباً أن يتبجّح وزير الدفاع الإسرائيلي، غالانت، بأنّ كلّ الخطوط الحمراء التي ادّعاها حزب الله، قد تجاوزتها إسرائيل ومحتها بسهولة.
هذه ليست دعوة إلى التشاؤم أو القنوط أو الصراخ وخيبة الأمل، بل هي فقط محاولة لبناء قراءة أخرى واقعية موضوعية لموازين القوى والحسابات الحقيقية للأمم والدول والمصالح التي تحرّك الجميع حقيقة، بعيداً عن اللغة المنمّقة والخطابات العاطفية والدموع التي تسيل حزناً على عشرات الآلاف من الأطفال الذين قتلوا قصفاً أو جوعاً وحرموا من أبسط حقوقهم الإنسانية.
العربي الجديد