شريط الأخبار

الإدارة العرجاء: عندما يصبح التعقيد نظامًا والوساطة مهنةً شرعية

الإدارة العرجاء: عندما يصبح التعقيد نظامًا والوساطة مهنةً شرعية
كرمالكم :  

م. عامر البشير

في مشهدٍ مثقلٍ بالبيروقراطية، حيث تتشابك القوانين واللوائح كما تتشابك أغصان الأشجار المتسلقة، ينشأ اقتصادٌ لا يستند إلى الإنتاج أو الإبداع، بل إلى مهارات فكّ شيفرة الانتظار والتعطيل، هنا لا تُقاس قيمة الوقت بالإنجاز، بل بمقدار ما يمكن أن يخسره العالق بين دهاليز المعاملات، إنها بيئةٌ تُنتج سوقًا خفيًّا، لا يعترف بالجهد، بل يتغذّى على الثغرات، حيث يتسيّد الوسطاء المشهد، متحولين إلى أوصياء المرحلة، يتحكمون في سرعة الإجراءات، لا بمعرفتهم او بمهنيتهم بل بقدرتهم على اختراق جدران التعقيد.

حين تصبح البيروقراطية حصنًا للانتظار

في جوهرها، لم تكن البيروقراطية مصممة لتكون عبئًا، بل وُجدت لضمان النظام والعدالة الإدارية، في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي كانت البيرقراطية الاردنية مصدر فخر، لكن هذا الوعد تحوّل إلى فخّ، حيث تكاثرت اللوائح كأنها بكرة خيطان متشابكة تزداد تعقيدًا مع كل تحديث، لا لشيء، سوى لأن التعقيد ذاته أصبح صناعة، الموظف العام، في كثير من الأحيان، لا يسعى إلى الفساد، لكنه يجد في هذه المتاهة حصنًا يحميه من المساءلة، يختبئ خلف الأنظمة الإلكترونية، يلوّح بها وكأنها سلطةٌ عليا لا يمكن تجاوزها، ليست المسألة مسألة كسل، بل تكمن في منظومةٍ صُمّمت بحيث تعتبر التسريع خروجًا على القانون، بينما يمنح التأخير حصانةً غير معلنة.

في ظل هذا المناخ، لا يُضطر المواطن فقط إلى الانتظار، بل يُدفع دون وعيٍ إلى البحث عن مخرجٍ من هذا الزمن المعلّق والوقت الضائع وهنا، ظهر المقاولون الجدد-سماسرةُ الوقت، الذين لا يبيعون سلعة، بل يبيعون الوصول، يجتمعون مع ضحايا البيروقراطية في المقاهي، بلا عناوين رسمية أو مكاتب أو أرقام ضريبية، يختصرون المسافات، ويحولون الانتظار إلى فرصةٍ للاستثمار، إنهم ليسوا مجرد وسطاء، بل خبراء في فكّ شيفرات التعقيد، يحفظون الثغرات عن ظهر قلب، ويبيعون تذاكر العبور لمن يستطيع الدفع، أتعاب الوساطة تفوق الرسوم والطوابع الحكومية أضعاف أضعاف، بينما يظلّ الآخرون عالقين في طوابير لا تنتهي عنوانها النسيان.

عندما يصبح الانتظار نظامًا لا يُخترق

المفارقة أن بعض المسؤولين، بدلاً من أن ينشغلوا بإصلاح هذا الخلل، ينهمكون في تلميع صورهم أمام الإعلام، يتحدثون عن "التحديث وصناعة القوانين" دون أي إنجازٍ ملموس، في الوقت ذاته، تزداد الإجراءات تعقيدًا، ويُبرَّر التأخير بأنه "ضمانٌ للشفافية"، وكأن الشفافية لا يمكن أن توجد إلا في بيئةٍ بطيئةٍ او عقيمة !! ما لا يُقال صراحةً هو أن هذه البيروقراطية ليست عشوائيةً تمامًا، بل هي مصممة بحيث تبقى هناك دائماً "ثغرة" لا يعرفها إلا مَن يملك شيفرة العبور.

لا يقتصر الأثر على المواطن العادي، بل يمتد إلى الاقتصاد نفسه، عندما تصبح رخصة البناء إجراءاً يستغرق شهورًا طويلة، رغم أن التنفيذ قد لا يتجاوز بضعة أشهر، وعندما تستغرق تصفية شركة غير عاملة سنوات، يفقد المستثمرون الثقة، فلا يعود الامتثال أولوية، بل يبحث المستثمر عن طريقٍ أسرع، حتى لو كان خارج القانون، وحين تُرفع الرسوم الجمركية بشكلٍ مبالغٍ فيه، لا يعود السوق الرسمي قادرًا على المنافسة، فتنشأ أسواق ظلّ أكثر سلاسة، لكنها تلتهم الاقتصاد الرسمي، وفي كل مرة تُفرض رسوم جديدة، يكون المهربون أول المستفيدين، لأن زيادة الضرائب تمنحهم فرصةً ذهبية، وهكذا تتحول البيروقراطية من مشكلةٍ إدارية إلى ديناميكيةٍ اقتصادية تُفرز بيئةً موازية، حيث يصبح الامتثال خيارًا غير عقلاني، والالتفاف على القانون ضرورةً للبقاء والثراء الفاحش.

الهروب الكبير: عندما تعيق التقنية التقدم

قد يُقال إن الحل يكمن في الرقمنة، وإن الأنظمة الإلكترونية ستضع حدًا لهذا العبث، ولكن، هل يمكن بناء "إدارةٍ رقمية" على أنقاض عملياتٍ إدارية عقيمة؟ ما يحدث غالبًا هو أن النظام الورقي لا يختفي، بل يتحوّل إلى كيان رقمي موغل بالتعقيد، يُطلب من المواطن رفع وثائق إلكترونية، ثم يعود ليُطالب بنسخٍ ورقية منها ومراجعات شخصية، وكأن البيروقراطية متحوّرة، ترفض أن تموت، فتتحوّل إلى أشكالٍ جديدة، وفي هذه الفوضى المنظمة، يجد المواطن نفسه أمام متاهةٍ تزداد تعقيدًا، بينما يزداد نفوذ الوسطاء الذين يعرفون كيف يفكّكون شيفرة الرقمنة كما فكّكوا سابقًا المتاهة الورقية بل أن ما يضيفه النظام الإلكتروني هو أنه يُبقي مقدّم المعاملة في الظل، لا يعرف أي شبح من الموظفين ينظر في طلبه، بينما يعرفه السماسرة، مما يمنحهم احتكارًا إضافيًا وأداةً تمكنه من ابتزاز الضحايا والتمكّن منهم.

الطريق إلى اقتصاد الإنتاج لا اقتصاد الانتظار

القضاء على هذا الاقتصاد البديل لا يكون بإضافة لوائح جديدة، بل بإعادة التفكير جذريًا في كيفية تصميم الإجراءات، فلا يمكن أن يكون تحسين كفاءة الإدارة مجرد شعار، بل يجب أن يكون مشروعًا سياسيًا واقتصاديًا وإصلاحاً ادارياً عميقًا يقوم على:

هندسة عمليات إدارية جديدة، لا تعيد إنتاج التعقيد القديم في قوالب جديدة.

إعادة تعريف دور الموظف العام, بحيث لا يكون حارسًا للبيروقراطية، بل ميسرًا للخدمات.

تحفيز الامتثال الطوعي من خلال أنظمة ضريبية عادلة، تجعل الالتزام أسهل من التهرب.

نقل الرقابة من الأوراق إلى الأداء الفعلي، بحيث يُحاسب المسؤول لا على عدد الاجتماعات والتصريحات الإعلامية والمؤتمرات الصحفية، بل على النتائج الفعلية في تبسيط الاجراءات وتسهيل حياة المراجعين.

لقد آن الأوان للانتقال من اقتصادٍ يقوم على الانتظار، إلى اقتصادٍ يقوم على الإنتاج والإنجاز، فالسؤال ليس "كيف نُسرّع الإجراءات؟"، بل "كيف نُلغي الحاجة إلى الوساطة او الواسطة من الأصل؟"ونجفف منابعها لنحصل على إدارةٍ لا تتغذّى على الوقت الضائع، بل على الزمن المنتج.

مواضيع قد تهمك