شريط الأخبار

حين نُصادق الجّلاد .. على هامش اغتيال أنس الشريف

حين نُصادق الجّلاد .. على هامش اغتيال أنس الشريف
كرمالكم :  

د. ربا زيدان

أنس الشريف قُتل. قُتل أمام عيوننا جميعًا، وانتشر وجهه في دقائق على كل شاشة وهاتف. ..كما كان ينتشر في عروقنا وبيوتنا في تغطياته لمأساتنا الجمعية وخيبتنا الأكبر ..

لكن الحقيقة أن هذه ليست بداية الحكاية ولا نهايتها. فالدم العربي يسيل منذ عقود بلا توقف: في فلسطين التي لم تعرف يومًا بلا شهيد أو أسير، في شوارع الجزائر أيام التحرر، في مخيمات لبنان وسوريا، في حروب السودان واليمن، في كل أرض نرفع فيها صوتًا فنُقابَل بالرصاص.

‎ثمانون عامًا أو أكثر ونحن نعيش المشهد نفسه بتفاصيل مختلفة: رصاصة، جثمان، شهيد ،جنازة، ثم غضب يملأ الشوارع أو الشاشات، قبل أن يتبخر شيئًا فشيئًا. دورة لا تنكسر، يتغير فيها اسم الضحية ومكان الحادثة، لكن النتيجة تبقى كما هي.

‎نحن نعلم كيف نغضب، لكننا لم نتعلم كيف نحافظ على الغضب ليصير فعلًا. نعرف كيف نُسمِع غضبنا، لكننا لا نعرف كيف نحوله إلى فعل يغير شيئًا على الأرض. هذا العجز ليس وليد اللحظة، بل حصيلة بنية سياسية واجتماعية خنقت أي محاولة لبناء فعل جماعي حقيقي، وأبقتنا في خانة رد الفعل.

‎وفوق هذه البنية، جاءت الفردانية لتقضي على ما تبقى من الهمّ العربي المشترك. لم تعد فلسطين شأنًا لكل العرب كما كانت، ولا سوريا، ولا السودان، ولا أي جرح آخر. صار كل واحد يبحث عن مأمنه الخاص، عن حماية بيته وأسرته، وكأن الموت لا يطرق إلا أبواب الآخرين. صرنا نقيس القضايا بمدى قربها من حدودنا، وبالمسافة بين الدم المسفوك ومكان وقوفنا.

‎هذه الفردانية ليست خيارًا بريئًا، بل نتيجة طبيعية لعقود من الخيبات وتراجع الثقة في أي مشروع عربي جامع. ومع كل جريمة جديدة، تتعمق القناعة أن التضامن لا يغيّر شيئًا، وأن النجاة الفردية هي الملاذ الوحيد الممكن. هكذا تحوّلنا من أمة تربطها قضية مشتركة إلى جزر متباعدة، تلتقي فقط في لحظات الغضب العابرة على الشاشات، ثم تعود كل جزيرة إلى صمتها.

‎ومع هذا الانكماش، لم نتوقف قطّ عن استنزاف أنفسنا في معارك جانبية لا قيمة لها. قضايا الهوية المذهبية، والنزاعات السياسية الصغيرة، وحتى الخلافات التافهة على شبكات التواصل، تحولت إلى ساحات لتبديد ما تبقى من طاقتنا. بينما نحن منشغلون ببعضنا، يواصل مستعمروا الأمس واليوم فرض واقعهم على الأرض ..

‎وبعد كل هذا ..بعد كل الذبح والتقتيل يظهر بيننا من لا يزال يظن أن مستعمر الأمس ومحتل اليوم يمكن أن يكون صديقنا. وكأن التاريخ مجرد قصة قديمة بلا صلة بالحاضر، وكأن الدم الذي سال على أيديهم في الأمس قد جفّ وتحول إلى حبر في كتب المدارس. هناك من يتحدث عن "فرص التعاون” و”آفاق الشراكة” مع من لا يزال يمارس الاحتلال، بل ويزيده إحكامًا كل يوم.

‎فقدان كامل للبوصلة…نتيجة طبيعية لعقود من محو الذاكرة، وإعادة كتابة الحكاية بطريقة تجعل الجلاد شريكًا محتملًا، وتجعل الضحية مطالبة دومًا بأن تكون "واقعية” و”عملية” في تعاملها معه.

‎تلك " العروبة "التي ورثناها عبئاً ونقمة ..لم تكن مجرد شعار، بل عقد دم بين شعوب تحمل نفس الجرح. لكننا، بوعي أو بلا وعي، مزقنا العقد، وتركنا بعضنا يواجه الرصاص وحده. نحن نعيش زمنًا نغطي فيه الشهداء بالكلمات، ونحصّن أنفسنا بالجدران، ونقنع أنفسنا أن الموت لن يمرّ من هنا.

متى ندرك أن الرصاصة التي تُطلق في غزة أو الخرطوم أو مخيم عين الحلوة، تعرف طريقها إلينا، عاجلًا أو آجلًا. وأن المستعمر الذي نحسن الظن به اليوم، لا ينام قبل أن يخطط لجولة جديدة من النهب والقتل غدًا.

‎إما أن نستعيد الهمّ العربي المشترك، كقوة حقيقية تحمي الدم قبل أن يسيل، أو نستعد لأن نُشيّع، الواحد تلو الآخر، حتى لا يبقى أحد ليرفع الجنازة.

مواضيع قد تهمك