شريط الأخبار

غياب رجال الدولة عن الإدارة العامة الأردنية

غياب رجال الدولة عن الإدارة العامة الأردنية
كرمالكم :  
أ. د. انيس الخصاونة
يعتبر مصطلح "رجال الدولة" من أكثر المصطلحات تداولا في الأوساط السياسية ولكنه بذات الوقت يعتبر مصطلحا جدليا يصعب تعريفه وتحديده والاتفاق على المعايير التي يستند لها تصنيف هذه الفئة من الشخصيات أو ما يطلق عليهم رجال دولة. فهل رجال الدولة هم كبار الموظفين ،أو البيروقراطيين ،أم تلك الفئة من العاملين في الأجهزة الحكومية العارفين بتفاصيل تخصصاتهم والملمين إلماما عميقا بمجالات عملهم، أم أن توصيف رجال الدولة يقتصر على فئة السياسيين ممن يشغلون مواقع وزارية أو رؤساء حكومات أو رؤساء مجالس النواب والأعيان! وهل مصطلح رجال الدولة مصطلح ذكوري فقط ينطبق على الرجال دون النساء، وإذا كان الأمر هكذا ماذا نسمي انديراغاندي رئيسة وزراء الهند السابقة، ومارغريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا ،وكوندليزرايس مستشارة الرئيس الأمريكي سابقا ،ومادلين أولبرايت وهيلاري كلنتون وزيرتي الخارجية الأمريكية ،والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل! وفي الحالة الأردنية أين تقع السيدات هاله زواتي، وريما خلف، وناديه الروابدة، ومجد الشويكه، ومها العلي، ورويدا المعايطة وغيرهن!.
وفي الوقت الذي نقر فيه أن مصطلح رجال الدولة ليس ذكوريا ،إذ لا علاقة للجنس بهذا المفهوم السياسي، فإننا نعترف أيضا بأن المصطلح ما زال فيه هامش خلافي رغم أن الاستخدام الواسع له يدلل على فهم عام لبعض السمات والخصائص لهولاء الذين يمكن أن يطلق عليهم رجال دولة.من هذه السمات البارزة امتلاك الذهنية أو العقلية الإستراتيجية في التعامل مع الشأن العام ،والقدرة على استشراف الأحداث والتنبؤ بها ،وأحيانا التخطيط متوسط الأمد وبعيد الأمد لحدوثها.هذه السمة هي التي تفرق بين الموظفين الفنيين والمتخصصين في مجال معين وبين رجال الدولة،فقد يكون الموظف كفاءة فنية ولديه عمق في تخصصه ولكنه ليس لديه رؤيا إستراتيجية للمستقبل. أما السمات الأخرى فهي تتعلق بامتلاك الكارزما أو الهيبة الشخصية والتي لها صلة بتاريخ الشخص في العمل العام، وامتلاك الأفق الواسع الذي يمكنه من رؤية ما لا يراه غيره ، والتفكير الإبداعي والخروج عن المألوف ،ومنهجياته في التعامل مع الأزمات ومواجهتها،والشجاعة في الطرح والتفكير خارج الصندوق، وحل المشكلات ،والنزاهة ،والجسارة في تقديم الأفكار والدفاع عنها ،والتمسك بالمبادئ والالتزام بالمنظومات التشريعية النافذة.ولعلنا نشير هنا إلى أن معظم هذه الصفات تنسجم إلى حد معتبر مع ما يسمى في علوم الإدارة والاجتماع بالقيادة التحويلية( Transformational Leadership).
ضمن هذا السياق فإن رجال الدولة استراتيجيون في نظرتهم، وتحليلاتهم، وفهمهم لقضايا الدولة وتحدياتها، ويميلون إلى التخطيط بعيد الأمد، ويقنعون رؤسائهم ومرؤوسيهم بأفكارهم ،ويحشدون الدعم لخططهم، ويشكلون بسلوكياتهم قدوة ونماذج يتعلم منها الموظفون الآخرون، وفي كثير من الحالات يقوم رجال الدولة بدور "صناعة القادة" أو صناعة الصف الثاني الذي يمكن أن يتولى القيادة في المستقبل.بالطبع رجال الدولة لا يمتلكون هذه الصفة بنفس الدرجة فهناك تدرج في تصنيف .
أما بالنسبة للدولة الأردنية فإننا نعتقد أن الوزراء لم يعودوا وزراء كما عهدناهم في السبعينات والثمانيات من القرن المنصرم ،ويشعر الأردنيون أن الحكومات لم تعد بمستوى وهيبة الحكومات التي اعتاد عليها المواطنين ، كما أنه ينتاب نسبة معتبرة من الأردنيين شعور بتلاشي أو غياب فئة القادة الكبار ورجال الدولة الحكماء المعتبرين في المجالات المختلفة...رجال دولة أمثال وصفي التل، وهزاع المجالي ،ومضر بدران ،وعون الخصاونة ،وطاهر المصري ،وذوقان الهنداوي، ومحمد عوده القرعان، والدكتور محمد البشير، ومروان القاسم، وخليل السالم ،وحمد الفرحان، ومروان الحمود، وفلاح المدادحه وعبداللطيف عربيات وغيرهم من الذوات الذين كانت سيرهم، وسلوكياتهم، وقراراتهم وحتى نمط حياتهم محل إعجاب واحترام من معظم الأردنيين.
نعم الإدارة العامة مليئة بالكفاءات الإدارية والبيروقراطية والفنية ولكنها تعاني من شح مفجع في رجالات الدولة الكبار الذين يمتازون بالعدالة ،والانتصار للمواطن ،والأفق البعيد ،والبصيرة والقدرة على استشراف المستقبل والتخطيط والإعداد له،والنزاهة والمحافظة على المال العام. أتذكر أن الدولة الأردنية أدركت قبل ثلاثة أو أربعة عقود ضرورة رعاية القيادات الواعدة التي تظهر بعض الخصائص والصفات القيادية في أوقات مبكرة وأسست لذلك هيئة أو مرجعية إدارية لرعاية هذه الفئة الواعدة من الشباب ،وبدأت برنامجا جيدا في الاستثمار فيهم وتعريضهم لتجارب وخبرات رجال دولة وقيادات رفيعة في داخل الوطن وخارجه، ولكن ما لبثت هذه المحاولة أو المشروع الواعد أن اندثر نتيجة سيطرة فئة أبناء الوزراء والمتنفذين عليه ،حيث أصبح واجهة لأبناء المسئولين.وهنا أستحضر تجربة المملكة المغربية في إنشاء ما يسمى المدرسة الوطنية العليا للإدارة بالرباط (L’Ecole Nationale Supérieure de l’Administration ENSA) مهمتها تكوين أطر إدارية عليا وتأهيلها تأهيلا مهنيا يمكنها من الاضطلاع بمهام إعداد التصورات والتخطيط والتوجيه والتأطير والإشراف على تنفيذ وتتبع وتقييم البرامج والسياسات العمومية بمختلف إدارات الدولة.وهذه التجربة مأخوذة بالطبع عن التجربة الفرنسية في إنشاء المدرسة الوطنية للإدارة (École nationale d'administration) التي تتولى إعداد رجالات الدولة والقيادات الإدارية المستقبلية في شتى قطاعات الدولة.صحيح أن المدرسة الفرنسية تم إلغاؤها مؤخرا من قبل الرئيس ماكرون ولكن هذا الإلغاء جاء بعد أكثر من 76 عاما من الممارسة التي أسهمت في دمقرطة الوصول إلى المناصب المدنية وإعداد رجال الدولة والنخب التي تقود مؤسسات الدولة الفرنسية. إن افتقار الإدارة العامة الأردنية لرجال دولة حقيقيين سيؤدي بالتأكيد إلى فقدان الهيبة والاحترام للوظيفة العامة وشاغليها ، كما يؤدي ذلك إلى افتقار الموظف العام إلى المثل الأعلى الذي يمكن أن يرنو إليه ومحاكاته وتقليده.إن اختيارات الحكومة ووزرائها والقيادات الإدارية العليا ينبغي أن لا يخضع فقط إلى أسس مناطقية وعشائرية ولكن ينبغي أن يكون هنالك انتقائية في الاختيار حتى من ضمن المنطقة الواحدة أو القبيلة أو العشيرة الواحدة بحيث يتم اختيار من يتوفر فيه الخصائص الإيجابية الواعدة لرجال الدولة...

مواضيع قد تهمك