مالك العثامنة
برنامج التحديث الاقتصادي الذي تتبناه الحكومة اليوم ليس ورقة عابرة ولا شعارا جديدا في خطاب سياسي مألوف، بل هو امتحان لقدرة الدولة على الانتقال من لغة الوعود إلى ممارسة الفعل، كما أنه في جوهره محاولة لإعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع عبر الاقتصاد، غير أن الامتحان الحقيقي لا يكمن في جمال النصوص ولا في كثافة العناوين، بل في طريقة التنفيذ، وفي الشجاعة "المطلوبة جدا" على إعادة النظر بعلاقة الحكومة مع القطاع الخاص.
لطالما كان القطاع الخاص في الأردن ضحية نظرة متوجسة، وكأن أرباحه خطيئة، وكأن المبادرة الاقتصادية فعل مشبوه يحتاج إلى رقابة قبل أن يُقاس بجدواه التنموية، وهذه الذهنية البيروقراطية التي ورثناها عبر عقود لم تعد تصلح في عالم تتسابق فيه الدول على اجتذاب رأس المال والاستثمار، ومن دون ثقة متبادلة بين الطرفين، سيظل البرنامج الاقتصادي مجرد جدول بيانات وأرقام على الورق.
الحكومة مطالبة اليوم بالخروج من قوقعتها الرسمية بربطات العنق والبيانات الجاهزة، وبأن تقترب أكثر من نبض رجال الأعمال والصناعيين والمستثمرين، ولا يكفي أن يكون ذلك عبر مؤتمرات صحفية أو لقاءات بروتوكولية، بل عبر أدوات غير تقليدية أكثر صدقًا وفاعلية، وفي عمّان، ما تزال الصالونات والسهرات الخاصة فضاءات حقيقية للحوار، بعيدًا عن الأضواء وعدسات الكاميرات، حيث تُقال الحقائق بلا تزيين، وتُطرح الأزمات بلا خوف من العناوين في اليوم التالي.
وزراء الحكومة هم في النهاية أشخاص من هذا المجتمع، يعرفون الصناعيين ورجال الأعمال، ويجالسونهم في حياتهم الاجتماعية وبعضهم أصلا قادم من القطاع الخاص، فما الذي يمنع أن تُوظَّف هذه العلاقات الإنسانية في كسر الجدار الجليدي بين الطرفين؟ خصوصا إن مثل هذه اللقاءات غير الرسمية قد تكون أكثر فائدة من عشرات الاجتماعات الرسمية، لأنها تفتح قنوات ثقة وتعيد الاعتبار لشراكة ضرورية، بدل أن يبقى القطاع الخاص مجرد متلق لقرارات تُصاغ في مكاتب مغلقة.
النظر إلى تجارب إقليمية يجعل الصورة أوضح، فالسعودية مثلا في "رؤية 2030” أعطت القطاع الخاص دورًا قياديًا في المشاريع الكبرى، ولم تتردد الحكومة في إشراك رجال الأعمال في صياغة البرامج، حتى في ملفات حساسة كالطاقة والخصخصة، الإمارات بدورها نجحت في تحويل اللقاءات غير الرسمية بين قادة الحكومة ورجال الأعمال إلى منصات لصياغة أفكار عملية تطورت لاحقًا إلى سياسات وطنية، وهذه النماذج تثبت أن فتح الأبواب أمام القطاع الخاص لا يعني خسارة الدولة سيطرتها، بل بالعكس، يعني كسب طاقة إضافية تدفع عجلة التغيير إلى الأمام.
الأردن لا يحتاج إلى استنساخ التجارب، لكنه يحتاج إلى استيعاب الدرس: أن الشراكة لا تُصاغ بالخطابات فقط، بل بالثقة والعلاقات الإنسانية الحقيقية، وبكسر الصورة النمطية التي تجعل الحكومة في برجها العاجي والقطاع الخاص في موقع المتهم الدائم، فالإصلاح الاقتصادي ليس قوانين فقط، بل ثقافة إدارة وعقلية انفتاح، وإذا لم يتحقق هذا التحول الذهني، ستبقى الخطط جميلة على الورق بينما الواقع يراوح مكانه.
برنامج التحديث الاقتصادي فرصة تاريخية، لكن نجاحه مرهون بمدى قدرة الحكومة على كسر الحواجز النفسية والاجتماعية قبل الحواجز القانونية، ومن دون ذلك سنكتفي بقراءة وثائق أنيقة ونصوص براقة، فيما يظل الاقتصاد عالقا في مكانه، ينتظر من يجرؤ على إخراجه من أسر البيروقراطية إلى حد تغولها عليه.
"الغد"
مالك العثامنة
برنامج التحديث الاقتصادي الذي تتبناه الحكومة اليوم ليس ورقة عابرة ولا شعارا جديدا في خطاب سياسي مألوف، بل هو امتحان لقدرة الدولة على الانتقال من لغة الوعود إلى ممارسة الفعل، كما أنه في جوهره محاولة لإعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع عبر الاقتصاد، غير أن الامتحان الحقيقي لا يكمن في جمال النصوص ولا في كثافة العناوين، بل في طريقة التنفيذ، وفي الشجاعة "المطلوبة جدا" على إعادة النظر بعلاقة الحكومة مع القطاع الخاص.
لطالما كان القطاع الخاص في الأردن ضحية نظرة متوجسة، وكأن أرباحه خطيئة، وكأن المبادرة الاقتصادية فعل مشبوه يحتاج إلى رقابة قبل أن يُقاس بجدواه التنموية، وهذه الذهنية البيروقراطية التي ورثناها عبر عقود لم تعد تصلح في عالم تتسابق فيه الدول على اجتذاب رأس المال والاستثمار، ومن دون ثقة متبادلة بين الطرفين، سيظل البرنامج الاقتصادي مجرد جدول بيانات وأرقام على الورق.
الحكومة مطالبة اليوم بالخروج من قوقعتها الرسمية بربطات العنق والبيانات الجاهزة، وبأن تقترب أكثر من نبض رجال الأعمال والصناعيين والمستثمرين، ولا يكفي أن يكون ذلك عبر مؤتمرات صحفية أو لقاءات بروتوكولية، بل عبر أدوات غير تقليدية أكثر صدقًا وفاعلية، وفي عمّان، ما تزال الصالونات والسهرات الخاصة فضاءات حقيقية للحوار، بعيدًا عن الأضواء وعدسات الكاميرات، حيث تُقال الحقائق بلا تزيين، وتُطرح الأزمات بلا خوف من العناوين في اليوم التالي.
وزراء الحكومة هم في النهاية أشخاص من هذا المجتمع، يعرفون الصناعيين ورجال الأعمال، ويجالسونهم في حياتهم الاجتماعية وبعضهم أصلا قادم من القطاع الخاص، فما الذي يمنع أن تُوظَّف هذه العلاقات الإنسانية في كسر الجدار الجليدي بين الطرفين؟ خصوصا إن مثل هذه اللقاءات غير الرسمية قد تكون أكثر فائدة من عشرات الاجتماعات الرسمية، لأنها تفتح قنوات ثقة وتعيد الاعتبار لشراكة ضرورية، بدل أن يبقى القطاع الخاص مجرد متلق لقرارات تُصاغ في مكاتب مغلقة.
النظر إلى تجارب إقليمية يجعل الصورة أوضح، فالسعودية مثلا في "رؤية 2030” أعطت القطاع الخاص دورًا قياديًا في المشاريع الكبرى، ولم تتردد الحكومة في إشراك رجال الأعمال في صياغة البرامج، حتى في ملفات حساسة كالطاقة والخصخصة، الإمارات بدورها نجحت في تحويل اللقاءات غير الرسمية بين قادة الحكومة ورجال الأعمال إلى منصات لصياغة أفكار عملية تطورت لاحقًا إلى سياسات وطنية، وهذه النماذج تثبت أن فتح الأبواب أمام القطاع الخاص لا يعني خسارة الدولة سيطرتها، بل بالعكس، يعني كسب طاقة إضافية تدفع عجلة التغيير إلى الأمام.
الأردن لا يحتاج إلى استنساخ التجارب، لكنه يحتاج إلى استيعاب الدرس: أن الشراكة لا تُصاغ بالخطابات فقط، بل بالثقة والعلاقات الإنسانية الحقيقية، وبكسر الصورة النمطية التي تجعل الحكومة في برجها العاجي والقطاع الخاص في موقع المتهم الدائم، فالإصلاح الاقتصادي ليس قوانين فقط، بل ثقافة إدارة وعقلية انفتاح، وإذا لم يتحقق هذا التحول الذهني، ستبقى الخطط جميلة على الورق بينما الواقع يراوح مكانه.
برنامج التحديث الاقتصادي فرصة تاريخية، لكن نجاحه مرهون بمدى قدرة الحكومة على كسر الحواجز النفسية والاجتماعية قبل الحواجز القانونية، ومن دون ذلك سنكتفي بقراءة وثائق أنيقة ونصوص براقة، فيما يظل الاقتصاد عالقا في مكانه، ينتظر من يجرؤ على إخراجه من أسر البيروقراطية إلى حد تغولها عليه.
"الغد"