شريط الأخبار

التمويل الأجنبي .. سهل ممتنع

التمويل الأجنبي .. سهل ممتنع
كرمالكم :  

م. عامر البشير

كرامة تُصان أم سيادة تُرتهن؟ التمويل الأجنبي بين شرف السيادة وخطر التبعية: المطلوب حماية اجتماعية بروح إنسانية وسيادة وطنية

في زمنٍ صار فيه المال لغةً تتحدث بها الدول، يُرسم به مستقبل الفقراء قبل أن يصل حتى إلى موائد الأثرياء، يظهر التمويل الخارجي كسيفٍ ذي حدّين: قد يبني جسورًا نحو غدٍ أفضل، أو يفتح أبواب التبعية واختزال القرار الوطني، المال لغة الدول… ولكن بأي ثمن؟

في مشاريع الحماية الاجتماعية، يُرفع شعار «الاستدامة» بفخر في الخطاب الرسمي، لكنها كثيرًا ما تبقى مجرد صدى بعيد، يتردد في أروقة الاتفاقيات وغرف الاجتماعات المكيّفة، دون أن يلامس نبض المحتاجين أو تفاصيل حياتهم اليومية. الاستدامة: شعار في الورق، أم التزام في الميدان؟ هنا يصبح السؤال عن الصدق بين القول والفعل أكثر إلحاحًا.

في جوهره، التمويل الأجنبي ليس عيبًا ولا خطأ؛ بل قد يكون طوق نجاة يحيي برامج قبل أن تولد، لكن التحدي الحقيقي يكمن في ضرورة تجنّب تحوّله من وسيلة مؤقتة إلى غاية دائمة، ومن شراكة إلى قيد قد يهدّد مرونة القرار الوطني، ويفرض شروطه، ويرسم أولوياته، ويعيد كتابة أجنداتنا بعيدًا عن حاجات المجتمع وأحلامه.

الميثاق القيمي: بوابة أخلاقية تحرس القرار

هنا يبرز سؤال لا مفر منه: كيف نضبط التمويل الاجنبي أخلاقيًا وقانونيًا؟ كيف نضمن أن تظل قراراتنا نابعة من إرادتنا، وأن تبقى الحماية الاجتماعية درعًا يحمي الكرامة الإنسانية، لا مجرد رقم في تقرير دولي؟

الإجابة تبدأ بميثاق قيمي يلتزم به الجميع، يحدد أن قبول أي تمويل مرهون بانسجامه مع أولوياتنا الوطنية، ورؤيتنا للعدالة الاجتماعية، وحفظ كرامة الإنسان، يجب أن نُعيد تعريف «المصلحة» لتصبح مرآة الإنسان: كرامته، حقه في العيش الكريم، وقدرته على بناء مستقبله بيديه.

القانون: الحارس الأمين للشفافية والسيادة

على المستوى القانوني، يجب أن يكون القانون الحارس الأمين لهذا الميثاق، تشريعاتنا يجب أن تفرض أقصى درجات الشفافية: ما غاية التمويل؟ ما شروطه؟ كيف يُنفّذ؟ كيف يُراقب؟ وما مصيره بعد انتهاء الدعم؟ كل شرط وكل التزام يجب أن يكون مكشوفًا أمام المواطنين، لا حبيس الأدراج.

الحماية الاجتماعية: كرامة لا تقبل الرهن

حين نتحدث عن الحماية الاجتماعية، فإن أهمية الحذر تتضاعف؛ لأننا لا نتحدث هنا عن بناء طريق أو جسر، بل عن كرامة إنسان، عن قلب أم، وعن حلم طفل، ربط هذه المشاريع بتمويل هشّ، يعني جعل الفقراء رهائن لصندوق، وتحويل احتياجاتهم إلى أوراق مساومة في سوق المصالح الدولية.

الاستدامة الحقيقية: من الاعتماد إلى التمكين

الاستدامة الحقيقية لا تولد من حبر التوقيعات ولا من نشرات المؤتمرات، بل من قدرتنا على تمويل برامجنا بأنفسنا، عبر إصلاح النظام الضريبي، وتقليل الهدر، وحسن إدارة الموارد.

هنا فقط ننتقل من فلسفة «الاعتماد» إلى فلسفة «التمكين»، ونرتقي إلى سيادة قرارنا.

تجربة تونس مثالًا

في أعقاب 2011، خاضت تونس تجربة إصلاح نظام دعم المواد الأساسية، عبر تمويل جزئي خارجي، لكنها وضعت «خريطة إصلاح اجتماعي» واضحة، التزمت فيها بتحسين شبكات الأمان الاجتماعي، ومشاركة المجتمع المدني في مراقبة التنفيذ، مما جعل القرار أقرب إلى نبض المجتمع، وأبعد عن أهواء المانحين.

توقيع العهد مع الذات قبل توقيع الاتفاقيات

في هذا المسار، تندمج الأخلاق والقانون لتُشكّلا جدارًا يحمي المشروع الإنساني، ويصون كرامة المستفيدين، وبينما يتسابق العالم على توقيع اتفاقيات التمويل، علينا أولًا أن نوقّع عهدًا مع أنفسنا: أن يظل الإنسان المحور، والسيادة مبدأً ثابتًا، والاستدامة ثمرةً طبيعية وحتمية وليست شعارًا مستعارًا.

عندها فقط، نكتب قصتنا بأيدينا، ونُعيد الحماية الاجتماعية إلى مكانها الأصيل، حضن المجتمع، ووعد صادق بمستقبل كريم، لا رقمًا عابرًا في ميزانيات طوارئ لا نملك مفاتيحها.

من المبادئ إلى التطبيق: خارطة طريق وطنية

لأن الكلمات وحدها لا تشبع جوعًا ولا تداوي ألمًا، يجب أن تتحوّل مبادئ السيادة والكرامة إلى خطط واضحة قابلة للتنفيذ، وهنا، يبرز دور «الصندوق الوطني للحماية الاجتماعية»، كجدار داخلي صلب، يُموّل من مواردنا الذاتية: عبر إصلاح النظام الضريبي بعدالة، وإعادة هيكلة دعم الطاقة والمياه، وتشجيع الوقف الاجتماعي، وإطلاق سندات تنموية وطنية مخصصة للفئات الأضعف.

إلى جانب ذلك، يمكن إطلاق «مجلس مجتمعي رقابي»، يضم ممثلين من المجتمع المدني والخبراء والمواطنين أنفسهم، لمراقبة تدفق التمويل وتوجيهه، وضمان ألّا يصبح المواطن مجرد رقم في دفتر حسابات دولي.

بهذه الخطوات، نتحرّر تدريجيًا من قيد التمويل الخارجي، ونزرع بذور الاكتفاء الذاتي، ونربّي ثقافة المشاركة والمسؤولية الجماعية، فلا يعود الحديث عن «السيادة» مجرد قصيدة في خطاب رسمي، بل يتحوّل إلى سلوك يومي وممارسة حيّة.

خاتمة

السيادة لا تُشترى، والكرامة لا تُرهن، والإنسان يظل دائمًا أغلى ما نملك وأثمن من أي رقم وللحديث بقية.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه الخاص، ويستند إلى تحليل عام للأطر القيمية والفلسفية المتعلقة بالتمويل الاجنبي والحماية الاجتماعية، دون استهداف أي جهة رسمية أو خاصة، أو التشكيك في التزامات الدولة أو المساس بسيادتها أو مكانتها، الغاية منه تحفيز النقاش العام البنّاء، بما ينسجم مع الدستور وحقوق الإنسان، ويهدف إلى تعزيز وعي المجتمع بمفاهيم الكرامة والسيادة والاستدامة.

مواضيع قد تهمك