م. عامر البشير
ثنائية الاختناقات المرورية والنقل الحضري ليست مجرد ترف تنظيمي، ولا هي بنية تحتية حضرية توازن بين الأرصفة والشوارع، بين المشاة والمركبات؛ بل هي فلسفة شاملة، تعكس روح المدينة، وتحمل نبض أهلها، وتدوّن قصصهم اليومية عبر الازدحامات المرورية وغياب منظومة نقل ذكي، آمن ومستدام، في جوهره، يجسد النقل العام العدالة الحضرية، ويصبح صوتًا خفيًّا ينطق باسم من لا صوت لهم في زحام الفوضى اليومية.
في عمّان، حيث تلامس الأدراج القديمة محاور الأبراج الحديثة، يختنق الوقت كل صباح في عنق زجاجة، وتتكاثر الصرخات الصامتة خلف كل مقود مركبة، هنا، تبرز الحاجة الملحّة إلى خطة استراتيجية شاملة للنقل والمرور — خطة لا تقتصر على تعبيد الطرق أو بناء الجسور، وحتى هذهِ حُرمت منها المدينة في العقد الأخير، بل ترى المدينة ككائن حي، له قلب نابض، وشرايين تحتاج إلى تدفّق سلس وحيوي، حيث ما زال هناك مجال للإصلاح، بالرغم من التأخّر غير المبررّ.
إن ضرورة التوسّع في إنشاء الطرق الدائرية حول قصبة ومدينة عمّان الكبرى، الذي يخفف التدفق المروري تجاه مركز المدينة، مشروع مؤجّل، ولكنه أحد أهم عناصر الحل، وتحديث المخطط الشمولي والمروري للعاصمة، في ظلّ الهجرات القسرية والداخلية، ليس مجرد قرار تنظيمي ترفي؛ بل هو إعلان فلسفي بأن مركز المدينة ليس مذبحًا مقدسًا للاختناقات، بل رئة حضرية يجب تخفيف عبئها بحنوّ، لا خنقها.
وإن فصل حركة المرور العابر عن حركة التسوّق، خاصة على محاور المداخل الشمالية والغربية والشوارع التجارية بمداخل المدينة، ليس مجرد إجراء روتيني؛ بل هو مناشدة لحماية كرامة المدينة وصون أهلها من أعباء الازدحام، الذي يحوّل تفاصيل الحياة اليومية إلى معاناة منهكة.
يمثل النقل العام حجر الزاوية في هذه الرؤية، من خلال منظومة نقل عام متعدد الوسائط، حافلات التردد السريع، القطار الخفيف، والمترو، ليست مجرد وسائط نقل؛بل شرايين حياة جديدة، تعيد تعريف العلاقة بين المواطن ومدينته، إن استكمال المرحلة الثالثة من مشروع الباص السريع نحو شرق عمّان يعيد ربط الأحياء المهمّشة بقلب المدينة، محوّلًا العدالة الاجتماعية من شعار يُقال على المنصات إلى مقعد متاح في حافلة.
أما على المدى المتوسط، فإن بناء الأنفاق والجسور والتقاطعات، وتخصيص مسارات للنقل العام، ليست رفاهية عمرانية أو حضرية؛ بل استثمار في كرامة الإنسان وحقه في تنقل حضاري وسلس، إن تقليل نقاط الدخول والخروج على الطرق الرئيسية، وتوفير طرق خدمة للشوارع التجارية، تفاصيل صغيرة في الظاهر، لكنها تعيد التوازن النفسي للمدينة، وتحرّر المواطن من أسر الانتظار وفوضى الزحام.
إن منح الحوافز لمطوّري المشاريع وملاّك الأراضي لتوفير مواقف سيارات إضافية يفرغ الشوارع من التكدّس، مقابل حقوق تطوير أوسع من المسموح في نظام الأبنية، يحقق حافزية وجدوى يشبه فتح نافذة صغيرة في غرفة مكتظة، يسمح للهواء أن يتسلل، وإن كان على استحياء، تلك المواقف، حين تُدار بأنظمة ذكية، تتحوّل من مجرد مساحة فارغة إلى نبض ذكي ينظّم حركة المركبات والمشاة، ويعيد توزيعها كمهندس ماهر يعزف على وتر الزمن.
كما ان غياب الاستعداد المسبق، والاتكال على خطط مرورية آنية في مواسم معروفة، كعودة المغتربين، أو شهر رمضان، أو بداية العام الدراسي، لا يعدو كونه محاولة لترقيع ثوب مهترئ، إذ كيف نعالج تدفّق السيول بلا سدود ولا قنوات تصريف مدروسة؟
وحين نُلقي عبء الأزمة كله على أكتاف مراقبي السير، نشبه من يُلقي الحطب على النار ثم يلوم الرياح، هؤلاء المراقبون ليسوا سوى واجهة في مسرح أزمة أكبر، أزمة أفق غابت عنها الرؤية الاستراتيجية وغاب عنها التنسيق بين مختلف القطاعات، فانفصل الرأس عن الجسد، وصار الجسد يترنّح في الفراغ.
إن تكدّس المركبات في عنق الزجاجة يشبه تدفّق ماء غزير في فتحة ضيقة؛ ما لم نوزّع التدفقات على فترات زمنية أطول، سنظل نحيا في دائرة مفرغة، نشتكي الزحام صباحًا ونلجأ إلى الحلول الترقيعية مساءً.
لهذا، يبقى الحل في تبنّي رؤية قصيرة المدى لتخفيف الألم الآني، تليها خطة استراتيجية متوسطة وطويلة الأمد، تعيد تعريف علاقة المدينة بمواطنيها، وتحوّل الشارع من حلبة صراع يومي إلى مسار انسيابي يشبه شريان الحياة.
هي فلسفة ترى في الطرقات أكثر من إسفلت، وفي السيارات أكثر من حديد؛ فلسفة تضع الإنسان في مركز التخطيط، وتكتب قصيدة انسيابية بين الزحام والفضاء الحضري.
الإصلاح لا يتوقف عند حدود الخرسانة والفولاذ، بل يمتد إلى الزمن — ذاك الخصم الأبدي للإنسان، توزيع أوقات الدوام، وتخفيف الذروة الصباحية، يعيدان تشكيل علاقة الناس بساعاتهم البيولوجية، ويعزّزان انسجامًا حضريًّا تحكمه ليس فقط إشارات المرور الحمراء، بل إيقاع جمعي يعرف كيف يوزّع دقّات القلب بحكمة.
أما النقل المدرسي، فهو أكثر من مجرد حل تقني؛ إنه رؤية مجتمعية تحتضن الطفل من باب المنزل إلى مقصده التعليمي، رؤية تلتفت للتفاصيل الصغيرة في التحميل والتنزيل وغيره من التفاصيل، تحمي حق كل طفل في بدء يومه بسلام وأمان.
وفي صلب هذه الفلسفة، يبرز دور التكنولوجيا — لا كزخرفة رقمية سطحية، بل كعقل جمعي للمدينة، التطبيقات الذكية، منظومة رقمية لإعادة توزيع تعرفة النقل العام، برامج التوعية المرورية، كلها روافد تصب في نهر حضري واسع، تقلّل العشوائية، وتحترم وقت الإنسان وكرامته.
إن إنشاء مشروع نقل حضري، غائب عن خطط الحكومات المتعاقبة لإقليم الوسط، ضرورة حتمية تشبه قصيدة حضرية طويلة، مكتوبة بلغة الأمان والراحة، ومغنّاة على ألحان الاقتصاد الأخضر وتقليل الانبعاثات.
إن إنشاء قطار خفيف يربط شمال عمّان من شفا بدران بجنوبها، وصولًا إلى المطار وما بعدها، ليس مجرد خط سكة؛ بل جسر وجداني يعيد رسم المشهد الاجتماعي والاقتصادي، وحجر الزاوية لمشروع اقتصادي اجتماعي عملاق للدولة الأردنية في مئويتها الثانية، وان الخطوط المغذية عبر نموذج الدعم المتقاطع، تفتح المجال أمام القطاع الخاص ليصبح شريكًا في هذه السمفونية الحضرية، لا مجرد خصم في دفاتر الحسابات، هكذا، يتحوّل النقل إلى ركيزة في الاقتصاد الوطني، جسر يربط الإنتاج بالاستهلاك، ويحوّل الطرق إلى فضاءات نابضة بالحياة، ويفتح فرص عمل للمرأة والشباب، حيث إن تراجع مشاركة المرأة يكلف الاقتصاد خسائر تصل إلى 65 مليون دولار سنويًّا بحلول 2030، وفق دراسات البنك الدولي.
حين يُخطط النقل بعناية، لا ينعكس فقط على الناتج المحلي ونسب النمو الاقتصادي، بل يصبح قطاعًا إنتاجيًّا عالي القيمة، يفوق أثره الاقتصادي ما يُخصص له من موازنات. هذه ليست أرقامًا صمّاء، بل شهادات حية بأن الطرق يمكن أن تكون نفط الدول الفقيرة، ومنصة للعدالة، ومرآة تعكس روح المدينة.
في نهاية المطاف، المدينة التي تحترم نظام نقلها، إنما تحترم نبض أهلها، تكتب قصتها لا بالفوضى والضوضاء، بل بالانسجام والحكمة — بحركة تشبه لوحة صامتة على إسفلت حي لا يخنق، بل يفتح الأفق واسعًا، ويدعو كل نبضة قلب للانضمام إلى سمفونية حضرية لا تنتهي.
م. عامر البشير
ثنائية الاختناقات المرورية والنقل الحضري ليست مجرد ترف تنظيمي، ولا هي بنية تحتية حضرية توازن بين الأرصفة والشوارع، بين المشاة والمركبات؛ بل هي فلسفة شاملة، تعكس روح المدينة، وتحمل نبض أهلها، وتدوّن قصصهم اليومية عبر الازدحامات المرورية وغياب منظومة نقل ذكي، آمن ومستدام، في جوهره، يجسد النقل العام العدالة الحضرية، ويصبح صوتًا خفيًّا ينطق باسم من لا صوت لهم في زحام الفوضى اليومية.
في عمّان، حيث تلامس الأدراج القديمة محاور الأبراج الحديثة، يختنق الوقت كل صباح في عنق زجاجة، وتتكاثر الصرخات الصامتة خلف كل مقود مركبة، هنا، تبرز الحاجة الملحّة إلى خطة استراتيجية شاملة للنقل والمرور — خطة لا تقتصر على تعبيد الطرق أو بناء الجسور، وحتى هذهِ حُرمت منها المدينة في العقد الأخير، بل ترى المدينة ككائن حي، له قلب نابض، وشرايين تحتاج إلى تدفّق سلس وحيوي، حيث ما زال هناك مجال للإصلاح، بالرغم من التأخّر غير المبررّ.
إن ضرورة التوسّع في إنشاء الطرق الدائرية حول قصبة ومدينة عمّان الكبرى، الذي يخفف التدفق المروري تجاه مركز المدينة، مشروع مؤجّل، ولكنه أحد أهم عناصر الحل، وتحديث المخطط الشمولي والمروري للعاصمة، في ظلّ الهجرات القسرية والداخلية، ليس مجرد قرار تنظيمي ترفي؛ بل هو إعلان فلسفي بأن مركز المدينة ليس مذبحًا مقدسًا للاختناقات، بل رئة حضرية يجب تخفيف عبئها بحنوّ، لا خنقها.
وإن فصل حركة المرور العابر عن حركة التسوّق، خاصة على محاور المداخل الشمالية والغربية والشوارع التجارية بمداخل المدينة، ليس مجرد إجراء روتيني؛ بل هو مناشدة لحماية كرامة المدينة وصون أهلها من أعباء الازدحام، الذي يحوّل تفاصيل الحياة اليومية إلى معاناة منهكة.
يمثل النقل العام حجر الزاوية في هذه الرؤية، من خلال منظومة نقل عام متعدد الوسائط، حافلات التردد السريع، القطار الخفيف، والمترو، ليست مجرد وسائط نقل؛بل شرايين حياة جديدة، تعيد تعريف العلاقة بين المواطن ومدينته، إن استكمال المرحلة الثالثة من مشروع الباص السريع نحو شرق عمّان يعيد ربط الأحياء المهمّشة بقلب المدينة، محوّلًا العدالة الاجتماعية من شعار يُقال على المنصات إلى مقعد متاح في حافلة.
أما على المدى المتوسط، فإن بناء الأنفاق والجسور والتقاطعات، وتخصيص مسارات للنقل العام، ليست رفاهية عمرانية أو حضرية؛ بل استثمار في كرامة الإنسان وحقه في تنقل حضاري وسلس، إن تقليل نقاط الدخول والخروج على الطرق الرئيسية، وتوفير طرق خدمة للشوارع التجارية، تفاصيل صغيرة في الظاهر، لكنها تعيد التوازن النفسي للمدينة، وتحرّر المواطن من أسر الانتظار وفوضى الزحام.
إن منح الحوافز لمطوّري المشاريع وملاّك الأراضي لتوفير مواقف سيارات إضافية يفرغ الشوارع من التكدّس، مقابل حقوق تطوير أوسع من المسموح في نظام الأبنية، يحقق حافزية وجدوى يشبه فتح نافذة صغيرة في غرفة مكتظة، يسمح للهواء أن يتسلل، وإن كان على استحياء، تلك المواقف، حين تُدار بأنظمة ذكية، تتحوّل من مجرد مساحة فارغة إلى نبض ذكي ينظّم حركة المركبات والمشاة، ويعيد توزيعها كمهندس ماهر يعزف على وتر الزمن.
كما ان غياب الاستعداد المسبق، والاتكال على خطط مرورية آنية في مواسم معروفة، كعودة المغتربين، أو شهر رمضان، أو بداية العام الدراسي، لا يعدو كونه محاولة لترقيع ثوب مهترئ، إذ كيف نعالج تدفّق السيول بلا سدود ولا قنوات تصريف مدروسة؟
وحين نُلقي عبء الأزمة كله على أكتاف مراقبي السير، نشبه من يُلقي الحطب على النار ثم يلوم الرياح، هؤلاء المراقبون ليسوا سوى واجهة في مسرح أزمة أكبر، أزمة أفق غابت عنها الرؤية الاستراتيجية وغاب عنها التنسيق بين مختلف القطاعات، فانفصل الرأس عن الجسد، وصار الجسد يترنّح في الفراغ.
إن تكدّس المركبات في عنق الزجاجة يشبه تدفّق ماء غزير في فتحة ضيقة؛ ما لم نوزّع التدفقات على فترات زمنية أطول، سنظل نحيا في دائرة مفرغة، نشتكي الزحام صباحًا ونلجأ إلى الحلول الترقيعية مساءً.
لهذا، يبقى الحل في تبنّي رؤية قصيرة المدى لتخفيف الألم الآني، تليها خطة استراتيجية متوسطة وطويلة الأمد، تعيد تعريف علاقة المدينة بمواطنيها، وتحوّل الشارع من حلبة صراع يومي إلى مسار انسيابي يشبه شريان الحياة.
هي فلسفة ترى في الطرقات أكثر من إسفلت، وفي السيارات أكثر من حديد؛ فلسفة تضع الإنسان في مركز التخطيط، وتكتب قصيدة انسيابية بين الزحام والفضاء الحضري.
الإصلاح لا يتوقف عند حدود الخرسانة والفولاذ، بل يمتد إلى الزمن — ذاك الخصم الأبدي للإنسان، توزيع أوقات الدوام، وتخفيف الذروة الصباحية، يعيدان تشكيل علاقة الناس بساعاتهم البيولوجية، ويعزّزان انسجامًا حضريًّا تحكمه ليس فقط إشارات المرور الحمراء، بل إيقاع جمعي يعرف كيف يوزّع دقّات القلب بحكمة.
أما النقل المدرسي، فهو أكثر من مجرد حل تقني؛ إنه رؤية مجتمعية تحتضن الطفل من باب المنزل إلى مقصده التعليمي، رؤية تلتفت للتفاصيل الصغيرة في التحميل والتنزيل وغيره من التفاصيل، تحمي حق كل طفل في بدء يومه بسلام وأمان.
وفي صلب هذه الفلسفة، يبرز دور التكنولوجيا — لا كزخرفة رقمية سطحية، بل كعقل جمعي للمدينة، التطبيقات الذكية، منظومة رقمية لإعادة توزيع تعرفة النقل العام، برامج التوعية المرورية، كلها روافد تصب في نهر حضري واسع، تقلّل العشوائية، وتحترم وقت الإنسان وكرامته.
إن إنشاء مشروع نقل حضري، غائب عن خطط الحكومات المتعاقبة لإقليم الوسط، ضرورة حتمية تشبه قصيدة حضرية طويلة، مكتوبة بلغة الأمان والراحة، ومغنّاة على ألحان الاقتصاد الأخضر وتقليل الانبعاثات.
إن إنشاء قطار خفيف يربط شمال عمّان من شفا بدران بجنوبها، وصولًا إلى المطار وما بعدها، ليس مجرد خط سكة؛ بل جسر وجداني يعيد رسم المشهد الاجتماعي والاقتصادي، وحجر الزاوية لمشروع اقتصادي اجتماعي عملاق للدولة الأردنية في مئويتها الثانية، وان الخطوط المغذية عبر نموذج الدعم المتقاطع، تفتح المجال أمام القطاع الخاص ليصبح شريكًا في هذه السمفونية الحضرية، لا مجرد خصم في دفاتر الحسابات، هكذا، يتحوّل النقل إلى ركيزة في الاقتصاد الوطني، جسر يربط الإنتاج بالاستهلاك، ويحوّل الطرق إلى فضاءات نابضة بالحياة، ويفتح فرص عمل للمرأة والشباب، حيث إن تراجع مشاركة المرأة يكلف الاقتصاد خسائر تصل إلى 65 مليون دولار سنويًّا بحلول 2030، وفق دراسات البنك الدولي.
حين يُخطط النقل بعناية، لا ينعكس فقط على الناتج المحلي ونسب النمو الاقتصادي، بل يصبح قطاعًا إنتاجيًّا عالي القيمة، يفوق أثره الاقتصادي ما يُخصص له من موازنات. هذه ليست أرقامًا صمّاء، بل شهادات حية بأن الطرق يمكن أن تكون نفط الدول الفقيرة، ومنصة للعدالة، ومرآة تعكس روح المدينة.
في نهاية المطاف، المدينة التي تحترم نظام نقلها، إنما تحترم نبض أهلها، تكتب قصتها لا بالفوضى والضوضاء، بل بالانسجام والحكمة — بحركة تشبه لوحة صامتة على إسفلت حي لا يخنق، بل يفتح الأفق واسعًا، ويدعو كل نبضة قلب للانضمام إلى سمفونية حضرية لا تنتهي.