شريط الأخبار

الأحزاب والدولة .. حضور قانوني وغياب سياسي

الأحزاب والدولة .. حضور قانوني وغياب سياسي
كرمالكم :  

جمال القيسي

في المشهد السياسي الأردني، باتت الأحزاب باعتراف قانوني صريح، وتحظى بحقوق تنظيمية في الجامعات والنقابات والبلديات. ورغم ذلك، ما يزال حضورها الفعلي في صناعة القرار السياسي محدودا ومجزأ؛ إذ تفتقد معظمها إلى التمكين السياسي الجذري والشراكة الحقيقية الوازنة التي تحولها من كيانات تنظيمية إلى أدوات مؤثرة في صناعة السياسات الوطنية. هذا التباين بين الاعتراف القانوني الشكلي والغياب السياسي المؤثر يطرح أسئلة جوهرية عن مستقبل الديمقراطية عموما في الأردن، وعن قدرة الأحزاب على استعادة دورها كركيزة أساسية في النظام السياسي الوطني برمته.

رغم كل ما يتردد رسميا عن الانفتاح على الحياة الحزبية الأردنية، تبدو غالبية الأحزاب، عمليا، وكأنها تخوض معركتها الكبرى لا من أجل الوصول إلى السلطة أو تمثيل قواعدها، بل فقط من أجل البقاء في المشهد الوطني؛ فغياب التضييق على تشكيل الأحزاب لا يعني حضور الشراكة مع مشروع الدولة، وحرية التنظيم لا تكفي وحدها لبناء حياة سياسية فاعلة.

الأحزاب ليست مستهدفة، ولا تواجه خصومة مع الدولة أو مع مؤسساتها؛ لكن هذا الواقع القانوني والتنظيمي، على أهميته، لم يتحوّل بعد إلى تمكين سياسي جذري يعيد الاعتبار للدور الدستوري للأحزاب بوصفها ركيزة أساسية في النظام الديمقراطي يراد له تحقيق مقاصد مشروع التحديث السياسي والوصول لغايته القصوى بتشكيل الحكومات البرلمانية.

المشهد الراهن يكشف عن مفارقة واضحة: الأحزاب ليست في مواجهة مع السلطة، لكنها، في الوقت نفسه، ليست جزءا فعليا وأصيلا في عملية صناعة القرار العام؛ فهي تتحرك في هامش مفتوح من حيث الشكل، محدود من حيث الأثر، في ظل غياب شراكة حقيقية تؤسس لحياة حزبية تمثيلية قابلة للنمو والاستمرار.

الانتقال نحو حياة حزبية حقيقية لا يُقاس بعدد التصاريح الرسمية بتشكيل الأحزاب، ولا بمساحة الحركة والتفاعل الحزبي على الأرض، بل يُقاس بمدى الشراكة التي تتيح للحزب المؤثر، حضورا واشتباكا مع القضايا الوطنية الحيوية، أن يكون طرفا في النقاش العام للقرار الأردني، والمساهمة في رسم السياسات العامة التي تمس قيم المواطنة وتكافؤ وسيادة القانون، وكذلك أن يكون الحزب الجاد حاضرا تمثيل المصالح الاجتماعية وفق برامج الحزب وأفكاره وأوراقه ومساهماته وانتشاره النوعي المعرفي. وفق هذه المعطيات السياسية والثقافية والاجتماعية المؤثرة الصادرة عن الأحزاب، الفاعلة على الأرض، وذات الصوت المسموع في التيار التقدمي التنويري الثقافي، ينبغي أن يكون حضور الأحزاب في ذهن الدولة لا عبر الشخصنة وحسابات التوازنات المناطقية السقيمة أو الولاءات التقليدية.

الخلل لا يكمن في الإرادة الحزبية فقط؛ بل في غياب بيئة إنتاج سياسي ناضجة، أي منظومة انتخابية قائمة على العدالة والتمثيل الحقيقي، وإعلام وطني مسؤول يعطي مساحة للبرامج لا للضجيج، والوجوه المكرسة، وتمويل عام مشروط بالشفافية، وتعامل مؤسسي شفاف يراعي استقلالية الأحزاب ويعترف بدورها ولا يراقب حركتها فقط.

أظهرت التجارب الحديثة أن تمكين الأحزاب تشريعيا ومؤسسيا لا يُنتج استقرارا وحسب، بل يُعيد بناء الثقة بين الدولة والمجتمع. ففي ألمانيا الاتحادية، إضافة إلى أن كل حزب يحقق نسبة 0.5% من الأصوات يحصل على تمويل حكومي عال مباشر، فإن الدولة ملزمة بأن توفر له منابر إعلامية وتنظيمية، ما أسس لنظام حزبي مستقر وفاعل لأكثر من سبعين عاما، ورفع نسب المشاركة السياسية إلى معدلات تفوق 70%.

وفي البرتغال، قادت تجربة تمكين الأحزاب اليسارية بعد أزمة 2011 إلى صياغة سياسة إنقاذ وطنية عبر ائتلاف موسع، ساهم مباشرة في خفض معدلات البطالة من 17% إلى أقل من 7% خلال عدة سنوات، وأعاد توزيع الأدوار بين الدولة والمجتمع بطريقة تعزز الشرعية الديمقراطية.

هذه الأمثلة تُبيّن أن التمكين الحزبي ليس امتيازا سياسيا، بل استثمار في بنية الدولة وقدرتها على الصمود والتجديد والاستقرار؛ فالديمقراطية لا تُبنى بالنيات ولا بالشعارات، بل بتوزيع حقيقي للأدوار، وشراكة مسؤولة في إدارة الشأن العام.

في الأردن، لا تعيش الأحزاب في مواجهة مع النظام، لكنها، في الوقت نفسه، ليست جزءا من معادلة القرار.
الأحزاب الأردنية لا تطلب تفضيلا لها غير دستوري، بل اعترافا بوظيفتها الدستورية، وشراكة تُترجم على الأرض من خلال منظومة انتخابية عادلة، وتمويل شفاف، ومساحات إعلامية متكافئة، وتعامل إداري لا يُراقب من بعيد، بل يُراكم الثقة المتبادلة.

وإلى أن يحدث ذلك، ستبقى الأحزاب السياسية كمن يُمنح حق الكلام في اجتماع حاسم، لكن صوته لا يُسمع، ولا يُؤخذ برأيه، ويبقى متفرجا على قرارات تصدر دون مشاركته الحقيقية.وربما يصدق عليه وصف الساكت عن الحق!

مواضيع قد تهمك